من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،
ويتميز هذا النص بحرص المؤلف - رحمه الله- فيه على تأصيل الأحكام التي يوردها.
النص:
صدقة الفطر واجبة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحر والعبد والذكر والأثنى والصغير والكبير من المسلمين.
يخرجها الرجل عن صغار أولاده ومحاجيره وزوجته، والسَّيِّدُ عن أرقائه بشرط الإسلام في الجميع: صاعًا من بُرٍّ أو من شعير أو من تمر أو من زبيب أو من أقط بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل من البر نصف صاع.
والسنة أداؤها قبل الخروج للصلاة، ويجوز قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. وتجب على من عنده فضل عن قوت يومه، وتصرف للفقراء.
-الشرح:
(صدقة الفطر واجبة) وجوب الفرائض (فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أنها واجبة بالسنة لا بالكتاب، لحديث ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان وأصحاب السنن وابن ماجه، وقال الترمذي حسن صحيح.
قال في الإرشاد: مذهب الشافعية والجمهور فرض زكاة الفطر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع عليه لكنه معارض فإن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرض على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب.
ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة. قال بهرام وروي ذلك عن مالك وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللباب من الشافعية وحملوا الفرض في الحديث على التقدير وهو ضعيف مخالف للظاهر. وقال ابن علية وابن كيسان الأصح نسخ وجوبها واستدل لهما بحديث النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله) ولكن في إسناده راوٍ مجهول، وعلى تقدير صحته فلا دليل فيه على النسخ لأن الزيادة في جنس الواجب لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل سائر الزكوات الأموال ومحل زكاة الفطر الرقاب كما نبه عليه الخطابي .
(على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) لحديث ابن عمر المتقدم قريبا فإن فيه أنها فرض على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. قال الطحاوي: قوله من المسلمين صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم، وتعقب بأن ظاهر الحديث يأباه لأن فيه العبد والصغير وهما ممن يخرج عنهم فدل على أن صفة الإسلام لا تختص بالمخرجين. ويؤيده رواية الضحاك عند مسلم بلفظ «على كل نفس من المسلمين حر أو عبد... الحديث». وقال القرطبي: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة ومن تجب عليه ولم يقصد بيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره بل يشمل الجميع .
(يخرجها) أي صدقة الفطر (الرجل عن صغار أولاده ومحاجيره وزوجته) وجوبا لما رواه الشافعي عن محمد بن عبد الباقي مرسلا نحو حديث ابن عمر وزاد فيه «ممن تَمُونُونَ». وأخرجه البيهقي من هذا الوجه . ومحل الدلالة قوله: « ممن تَمُونُونَ » فإنه يشمل الأولاد الصغار والزوجة يخرجها عنهم الأب والزوج من ماله. وقد قال مالك والشافعي وأحمد واحتجوا بحديث ابن عمر: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تَمُونُونَ) رواه الدارقطني والبيهقي وقال إسناده غير قوي.
وأما المحاجير فيخرجها عنهم الولي من مالهم إن كان لهم مال لحديث ابن عمر المتقدم فإن فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها على الصغير والكبير) أي أنها تخرج من مال الصغير، والمخاطب بإخراجها وليه.
(و) يخرجها (السيد عن أرقائه) أي عبيده لقوله صلى الله عليه وسلم : «ليس على المسلم في عبده صدقة إلاّ صدقة الفطر»، (بشرط الإسلام في الجميع) أي المخرج، والمخرج عنهم فلا تجب على الكافر ولا تخرج عنه، والأصل في ذلك قوله: (من المسلمين) في حديث ابن عمر المتقدّم قريبا عند مالك في الموطإ.
قال في الإرشاد: "تنبيه: قوله (من المسلمين) ذكر غير واحد أنّ مالكا تفرد بها من بين الثقاة وفيه نظر فقد رواه جماعة ممن يعتمد على حفظهم منهم: عمر بن نافع والضحاك بن عثمان وكثير بن فرقد والمعلى بن إسماعيل ويونس بن يزيد وابن أبي ليلى وعبد الله بن عمر وأخوه عبيد الله بن عمر وأيوب السختياني.
فأما رواية عمر بن نافع فأخرجها البخاري في صحيحه، وأما رواية الضحاك بن عثمان فأخرجها مسلم في صحيحه، وأما رواية كثير بن فرقد فرواها الدارقطني في سننه والحاكم، وأما رواية المعلّى بن إسماعيل فرواها ابن حبان في صحيحه، وأما رواية يونس بن يزيد فرواها الطحاوي في بيان المشكل، وأما رواية ابن أبي ليلى وعبد الله بن عمر العمري وأخيه عبيد الله التي فيها بزيادة قوله (من المسلمين) فرواها الدارقطني، وأما رواية أيوب السّختياني فذكرها الدارقطني، وهذه الزيادة تدل على اشتراط الإسلام في وجوب زكاة الفطر، ومقتضى ذلك أنّه لا تجب على الكافر زكاة الفطر لا عن نفسه ولا عن غيره، فأما عن نفسه فمتفق عليه، وأما عن غيره من عبد وقريب فمختلف فيه.
وللشافعية وجهان مبنيّان على أنّها هل تجب على المؤدّي ابتداء أم على المؤدى عنه ثم يتحمّل المؤدي. والأصح الوجوب بناء على الأصح وهو وجوبها على المؤدى عنه ثم يتحمل المؤدي وهو المحكيّ عن أحمد، وأما عكسه وهو إخراج المسلم عن قريبه وعبده الكافِرَيْن فلا يجب عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة بالوجوب.
وقال في الفتح: نقل ابن المنذر أن بعضهم احتج بما أخرجه من طريق ابن إسحاق قال: حدثني نافع عن ابن عمر (أنه كان يخرج عن أهل بيته حرهم وعبدهم صغيرهم وكبيرهم مسلمهم وكافرهم من الرقيق) قال: وابن عمر راوي الحديث أعلم بمراده. وتعقب بأنه لو صح لحمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعا ولا مانع منه.
وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري: إنها لا تجب إلا على من صام. واستدل لهما بحديث ابن عباس: «صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث» أخرجه أبو داود.
وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب كما أنها تجب على من لم يذنب كمتحقق الصلاح، وعلى من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة. وفي قوله (طهرة... إلخ) دليل على وجوبها على الفقير كالغني، وقد روي ذلك صريحا في حديث أبي هريرة عند أحمد وثعلبة بن صعير عند الدارقطني خلافا للحنفية في أنها لا تجب إلا على من ملك نصابا لحديث «لا صدقة إلا عن ظهر غنى».
قال ابن بزيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها لأنها زكاة بدنية لا مالية. نعم الشرط أن يفضل الصاع عن قوت يومه وقوت من تلزمه نفقته لحديث الصحيح: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى».
ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب عن الجنين. قال: وكان أحمد يستحب إخراجها عنه ولا يوجبه، ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب.
وبه قال ابن حزم لكن قيّده بما إذا مضى له مائة وعشرون يوما من يوم حمل أمه به. وتعقّب بأنّ الحمل غير محقق وبأنه لا يسمى صغيرا لغة ولا عرفا.
تخرج حال كونها (صاعا من بر) أي قمح (أو) صاعا (من شعيرأو) صاعا (من تمر أو) صاعا (من زبيب أو) صاعا (من أقط) وهو لبن يابس متحجّر فيه زبدة. لحديث أبي سعيد الخدري قال: (كنا نخرج في زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب)، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان.
زاد مالك في روايته: (وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ).
وزاد الشيخان: (فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدين) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: (فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدّين) . وأخرج مالك في الموطإ عن ابن عمر (أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر إلا مرة واحدة أخرج شعيرا).
ولحديث ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير... الحديث) أخرجه البخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، وقال الترمذي حسن صحيح. والمراد بالطعام في حديث أبي سعيد البر.
قال في الإرشاد: وحكى المنذري في حواشي السنن عن بعضهم اتفاق العلماء على أنّ المراد بالطعام هنا البر .
(بصاع النبي صلىاللهعليهوسلم)، لقول أبي سعيد عند الموطإ: (وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ) وهو أربعة أمداد بمده، والمد رطل وثلث عند مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة وصاحباه: المدّ رطلان والصاع ثمانية أرطال؛ ثم رجع أبو يوسف إلى قول الجمهور لمّا تناظر مع مالك فأراه الصيعان التي توارثها أهل المدينة عن أسلافهم من زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن عبد الباقي: فتخرج زكاة الفطر من أغلب القوت من هذه الخمس وخالف في البر والزبيب من لا يعتدّ بخلافه فقال: لايخرج منهما. وردّه الباجي وعياض بالإجماع عليهما وقاس عليهما مالك ما في معناهما وهو الأرز والدخن والذرة والسلق، وأجاز مالك إخراجها من الأقط وأباهُ الحسن، واختلف فيه قول الشافعي. وكيف هذا مع نص الحديث عليه؟.
(وقيل) أي وقال الحنفية هي أي صدقة الفطر (من البر) أي من القمح (نصف صاع) لا صاع كامل لما في حديث أبي سعيد عند الشيخين من زيادة (فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدين).
ولحديث ابن عمر عند البخاري قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من شعير. قال عبد الله أي ابن عمر: فحمل الناس عدله مدين من حنطة)؛ قال في الإرشاد: وظاهره أنه فعل ذلك بالاجتهاد بناء على أن قيم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن لكن يلزم عليه أن تعتبر القيمة في كلّ زمان فتختلف الحال ولا ينضبط، وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من الحنطة.
ويدل على أنهم لحظوا ذلك ما روى جعفر الفريابي في كتاب صدقة الفطر (أنّ ابن عباس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر وبيّن لهم أنها صاع من تمر إلى أن قال: أو نصف صاع من بر. قال: فلما جاء عليٌّ ورأى رخص أسعارهم قال: اجعلوها صاعا من كلّ) فدلّ على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك قاله في فتح الباري، لكن في حديث ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «زكاة الفطر صاع من بر أو قمح عن كلّ اثنين» رواه أبو داود، أي أنه يجزئ عنهما. وهذا نص صريح ولا اجتهاد مع النص وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، لكن حديث ثعلبة في سنده النعمان بن راشد لا يحتج به، وقال البخاري فيه: يهم كثيرا، وقال أحمد: ليس حديثه بصحيح.
وأخرج أبو داود من طريق عبد العزيز بن رواد عن نافع عن ابن عمر أنه قال: (فلما كان عمر كثرت الحنطة فجعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء) . وقد حكم مسلم في كتاب التمييز بوهم عبد العزيز وأوضح الردّ عليه.
وفي مسلم (أن أبا سعيد أنكر على معاوية ما قال وقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني الصاع كاملا من الحنطة.
ولأبي داود أنه قال: (لا أخرج أبدا إلا صاعا)، وللدارقطني وابن خزيمة والحاكم (أنّ أبا سعيد قال له رجل: مدّين من قمح؟ فقال: لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها) وهذا يدل على وهن ما ذكر عن عمر وعثمان أنهما قالا بالمدين، فليس في المسألة إجماع سكوتي خلافا للطحاويّ. قال النووي: وتمسّك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة وفيه نظر لأنه فعل صحابي قد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول منه صحبة وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم . وقد خرج معاوية بأنه رأيٌ رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم .
(والسنة) النبوية (أداؤها) أي إعطاؤها لمصرفها (قبل الخروج) أي خروج الناس (للصلاة) أي لصلاة العيد لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ،أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح.
(وتجزئ) أي أداؤها (قبل) يوم (الفطر بيومين أو ثلاثة) لحديث أبي هريرة قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظ زكاة رمضان...الحديث، وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر) ،أخرجه البخاري. فدل على أنهم كانوا يعجلونها بهذا المقدار. ولابن خزيمة عن أيوب قال: (قلت لنافع متى كان ابن عمر يعطي؟ قال إذا قعد العامل قلت: متى كان يقعد ؟ قال : قبل الفطر بيوم أو يومين . وأخرج مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.
(وتجب على من عنده فضل عن قوت يومه) أي وقوت من تلزمه نفقته لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا صدقة إلا عن ظهر غنى » أخرجه أحمد وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الغنى بما يغذيه وما يعشيه كما في حديث سهل بن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار قالوا: وما الغنى يا رسول الله؟ قال: قدر ما يغذيه ويعشيه » أخرجه أبو داود وابن خزيمة وصححه ابن حبان، وهذا هو مذهب مالك والجمهور. وقال الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصابا، قال ابن بزيزة :لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها لأنها زكاة بدنية لا مالية، نعم الشرط أن يفضل عن قوت يومه ومن تلزمه نفقته للحديث الصحيح: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى».
(وتصرف) أي زكاة الفطر (للفقراء) لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أغنوهم -يعني الفقراء- عن طواف هذا اليوم » رواه سعيد بن منصور.