كانت الجلسة الرابعة مساء يوم السبت 22 ديسمبر 2012 من الساعة الرابعة إلى الواحدة الساعة التاسعة، برئاسة السيد أحمد ولد الوافي الذي استعرض في بدايتها أهمية المحاضرات المبرمجة وما ينتظر من أصحابها من إضاءات في هذه المحطة الأخيرة من الندوة، ليحيل الكلام للمحاضرين تباعا.
المحاضرة الأولى : العلامة محمد يحيى الولاتي رجل الإصلاح والتواصل ـ منور خميله
حرص المحاضر بداية على تحديد السمات المميزة لشخصية العلامة محمد يحي الولاتي من خلال ما كتبه وما قيل عنه حول تكوينه وتصرفه في الوقت وتنوع اهتماماته ومتانة مرجعيته الفكرية وامتلاكه فنيات التقييم والنقد البناء، لافتا النظر إلى أنه اجتمعت في شخصه قدرات ومواهب متعددة جعلت منه رجلا جمعا((un homme pluriel ولدت من حياته حياوات متوازية(des vies parallèles) ومن أعماله روافد مثرية للرصيد المعرفي ببلاد الإسلام . ثم اتجه إلى استنطاق رحلته الحجازية باعتبارها أثرا فنيا متعدد المظاهر (oeuvre polymorphe) يزخر بالمعلومات حول الرجل وعصره في مرحلة مفصلية من تاريخ العرب والمسلمين كما يفيدنا في ضبط مواطن التجديد والاجتهاد والإصلاح.
وأبرز إسهام الولاتي في تعزيز الروابط بين علماء جناحي العالم الإسلامي و تكثيف فرص المثاقفة والتثقيف بينهم في مجالات التدريس والإفتاء والتأليف بما يمهد الأرضية السانحة لانتشار الحركة الإصلاحية على أوسع نطاق، معرجا على نضالية الولاتي من خلال فتاويه التي تهدف إلى إنعاش القيم والمبادئ الإسلامية السامية وتوضيح المفاهيم قصد تنقية الشريعة مما علق بها من شوائب وما خالطها من زيغ و تحريف طيلة قرون الانحطاط والجمود والتخلف.
وختم مشاركته بتوصيات ومقترحات حول مواضيع الندوة بصورة عامة وحول الرحلة الحجازية على وجه الخصوص.
المحاضرة الثانية : الولاتي وجهوده اللغوية ـ محمدن ولد المحبوبي
تحدث المحاضر عن جهود الفقيه في علوم اللسان، مقدما نماذج من إسهاماته في الدرس النحوي، وأمثلة من منتوجه في علم الصرف، وعينات من ثمرات فكره في حقل البلاغة والأسلوب تراوحت بين التأليف والتدريس، وبث كثير من المعارف النحوية بعدد من المراكز الثقافية والمحطات العلمية التي مر بها خلال رحلته الحجية التي جلس خلالها عدة مرات لتدريس المتون النحوية. أما جهوده في التأليف فكانت أوضح وأبرز شملت تيسير العديد من النصوص النحوية وتسهيلها عن طريق النظم والشرح والملخص...
واعتبر المحاضر أن مؤلفات الولاتي اللغوية غطت مراحل الدرس النحوي المختلفة من المراحل التعليمية الأولى إلى المستويات الأكاديمية العليا فتدرج من الآجرومية إلى ابن مالك إلى السيوطي وابن هشام.
ثم استعرض نماذج من مؤلفاته مركزا على منظومته في علم التصريف التي قال إنها عبارة عن رجز سهل يقع في قريب مائة وأربعين بيتا يشمل موضوعات مختلفة تجمع جملة من مسائل التصريف، وتصوغها في قالب تعليمي ييسر حفظها على الطلبة والدارسين، ويضعها في متناولهم، ثم أشار إلى أنه يسر هذه المنظومة للناس بشرح لطيف ويبين غامضها، ويشرح المستغلق من ألفاظها. أما في علم البيان فأشار إلى أنه خلف آثارا من أهمها شرحه لألفية السيوطي في البيان وعنوانه: : "مرتع الجنان على عقود الجمان".
وختم المحاضر بالتعريج على بعض أجوبة الولاتي خلال رحلته عن أسئلة تتعلق ببلاغة القرآن، وأسلوبه المتميز في الإعجاز كجواب عن معنى قوله تعالى: ﴿كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون﴾، وكيف أنه أبع في الجواب وفي مناقشة آراء أئمة علماء البلاغة..
التصوف عند محمد يحيى الولاتي ـ محمد حنفي ولد دهاه
حدد المحاضر في البداية مفهوم التصوف عند الولاتي، وموقفه من مختلف طوائف الصوفية ونقده لانحرافات بعض المنتسبين للتصوف مميزا في هذا الإطار بين التصوف الحقيقي والتصوف المنحرف. وشدد على أن قسوة الولاتي في نقده لبعض الصوفية إنما كانت من قبيل النصح، وأورد نماذج من أجوبته عن بعض الأسئلة المتعلقة ببعض الممارسات والمفاهيم الصوفية.
وأكد انتماءه للطريقة التجانية اعتمادا على مواقفه المبثوثة في كتبه المختلفة وعلى ما يحظي به الشيخ أحمد التجاني من مكانة لديه تدل عليها قصائد دبجها في مدحه إنشاء أو تربيعا، ومقامه بزاوية ابراهيم الرياحي التجانية بتونس، واعتمادا كذلك على شهادات شفهية نقلها المحاضر عن بعض الثقاة تؤكد انتماءه لهذه الطريقة...
المحاضرة الرابعة : جهود الولاتي في الحديث الشريف ـ محمد بن محمد الحافظ بن الراظي
استهل المحاضر موضوعه بإبراز مكانة الفقيه العلمية لينتقل إلى تناول كتبه في مجال الحديث هي:
- شرحه مختصر صحيح البخاري لابن أبي جمرة واسمه "سلم الفقه والدراية" على "جمع النهاية في بدء الخير والغاية" الذي حرص الولاتي فيه كما قال هو نفسه على أن يهتم ببيان وجه الدلالة في ما يظهر له في الحديث من الفقه أو التصوف..
- "نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح"، وكانت الغاية منه استنباط الأحكام الفقهية من الأحاديث النبوية، وهو كتاب ممحض لفقه الحديث قل نظيره في عصره.
ورأى الباحث أن الفقيه انفرد بفوائد مهمة في هذين الكتاب منها رفع إشكال بعض الأحاديث وحرصه على التنبيه على مشهور مذهب الإمام مالك في كثير من المواطن التي لا يتفق فيها مع مذهب الشافعي وهو مذهب ابن حجر الشارح لصحيح البخاري. هذا فضلا عن تخطئته لبعض كبار العلماء كابن هبيرة في حديث: " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وتخطئته النووي في أن الصلاة لا تكفر الكبائر، وتخطئته العسقلاني والقسطلاني لأنهما غفلا في نظره عن لفظ الحديث في حكمهما على لفظة: "أقسمت"، أنها غير صريحة في اليمين.... هذا بالإضافة إلى ربطه للحديث بالواقع كاستنباطه لذم ظاهرة تشغيل الأطفال في الكتاتيب وتكليفهم ما يشق عليهم، من أثر يذكر عن أم سلمة أخرجه البخاري في كتاب الديات من صحيحه...
- رسالته في مصطلح الحديث: "مهيع الرشد والصواب الموصل إلى مصطلح حديث النبي الأواب"، الذي يعتبر من المختصرات الدراسية التي يكون الهدف منها جمع شتات مباحث الفن لإثرائها بالشرح والتحليل في مجالس الدرس.
المحاضرة الخامسة: محمد يحيى الولاتي في مواجهة محاولات التغلغل الاستعماري الفرنسي - محمد الامين ولد حمادي
تناول البحث بالاستقصاء والتحليل موقف الفقيه محمد يحيى الولاتي من محاولات التغلغل الاستعماري الفرنسي في البلاد.. وبدأ ببيان اختلاف مواقف العلماء من هذه المحاولات بين رافض للوجود الفرنسي وقابل به، مبرزا المستندات والحجج التي اعتمد عليها كل فريق. وخلص إلى أن الفقيه محمد يحيى الولاتي لم يبق بمعزل عن هذه الظاهرة الجديدة والمتمثلة في ظهور الفرنسيين على مشارف المناطق الحيوية للقبائل الناطقة بالعربية. ورصد الباحث جملة من المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع وحللها على ضوء ما كانت عليه الأحوال في عصر الفقيه الولاتي. كما قام باستقراء ما توفر من وثائق الأرشيف الفرنسي عن الفقيه الولاتي.
وانتهى إلى أن الفقيه الولاتي ناصب العداء للمستعمر الفرنسي وعبأ الناس وحثهم على القطيعة مع "النصارى"، دلت على ذلك مراسلاته مع قادة المجتمع من الزوايا حملة العلم و العرب أصحاب الشوكة. ولعل أبرز دليل على جهاده ومقاومته، ما كشفت عنه التقارير السرية للإدارة الاستعمارية حيث ظهر أن موقف الفقيه الولاتي كان محط اهتمام بالغ للمستعمر لدرجة جعلتهم يرصدون كل حركاته وسكناته ويعتبرونه من ألد أعدائهم في المنطقة.
المحاضرة السادسة : أدب الرحلات ـ يحي ولد سيد أحمد
مهد الباحث لموضوعه بتأكيد أن ولاتة تعتبر بحكم حجم ونوعية ما تم الحصول عليه من تراثها الشعري والنثري مدرسة أدبية قائمة بذاتها. وناقش في ذلك محمد ابراهيم الكتاني الذي حكم على علماء هذه المدينة في تقديمه لكتاب فتح الشكور بأنهم لم يتجاوزوا ترديد ما قاله من قبلهم، جازما بأن حكمه هذا يدل على أنه لم يطلع على تراثهم الأدبي. وعزز الباحث موفقه بشهادة الدكتور محمد حجي لمحمد يحيى الولاتي في تقديمه لتحقيق رحلته الحجازية بأنه كان أديبا شاعرا ناثرا. كما استشهد بشهادة أخرى للفقيه من محمد باش طبجي الحنفي من تونس الذي وصفه بأنه: ( رجل تلوح عليه الشهامة، يمثل عربيا من تهامة، أو كأنه نشأ في بادية اليمن، أو أدبته امرأة من علياء هوازن، فلا غرو أن يحذو في نطقه الاعتيادي حذو العربية الفصيحة).
ونزل الباحث أدب الرحلة الحجازية لدى الولاتي في سياق أدب الرحلات الذي اعتبره فنا أدبيا عربيا عتيقا يجد جذوره الأولى في رحلة الشتاء والصيف، وأصبح بعد انتشار الأمصار الإسلامية موضوع تآليف كثيرة من الرحالة المسلمين...
ثم اتجه إلى عقد مقارنة بين رحلة الولاتي ورحلتي ابن اطوير الجنة الواداني وابن ابوّه اليعقوبي. شملت المقارنة إحصائيات دقيقة لمضامين الرحلات الثلاث وأساليبها والمساحات التي شغلها التأليف والوصف والشعر من كل واحدة منها. فأبرز مثلا انفراد الولاتي بكثرة المؤلفات المكتملة في رحلته والتي شملت نظما للآجرومية وشرحا له. وقال إنه في حين تضمنت رحلة الولاتي 12 قصيدة فإن رحلة الواداني احتوت على 300 بيتا بينما أحصى287 بيتا في رحلة اليعقوبي. ومع ذلك أشار إلى أن النفَس الشعري لدى الولاتي واليعقوبي طويل خاصة إذا احتسبنا الديوان الشعري لهذا الأخير. ولاحظ كثرة الوصف عند الواداني مقارنة مع الولاتي الذي قَصَرَ الوصف على الحرمين والمشاعر، بينما أغلب وصف اليعقوبي كان شعرا.