بمناسبة شهر رمضان المبارك
ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي. ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.
النص:
ورمضان أفضل الشهور وإذا دخل فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين. ومن صامه أو قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وفيه ليلة القدر وتلتمس في العشر الأواخر في أوتارها، والسنة الاجتهاد في العبادة فيها، وأمر الصبيان بصوم رمضان إذا أطاقوه.
الشرح:
(ورمضان) هو (أفضل الشهور) أي شهور العام لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... الآية }[البقرة:185]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر}[القدْر:1]{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}، [القدْر:2]، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر}[القدْر:3] إلى آخر السورة. ففي الآيتين دليل واضح على أنّ رمضان هو أفضل الشهور حيث خصه الله تعالى بإنزال القرآن وجعل ليلة القدر فيه.
(وإذا دخل) رمضان (فتحت أبواب الجنة) فرحا بالمؤمنين الصائمين وتهيئا لدخولهم فيها، أو المراد بالجنة الرحمة التي تنزل في رمضان أي فتحت أبواب الرحمة.
(وغلقت أبواب جهنم) أي أبواب الشر والبلاء الدنيوي والأخروي فلا ينزل فيه شر.
(وسلسلت الشياطين) أي شدّت بالسلاسل فلا يصلون إلى إفساد المسلمين، أو المراد بالشياطين مسترقو السمع فلا يسترقون في رمضان. والأصل في ذلك حديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين» أخرجه مسلم والنسائي. وفي رواية مسلم «فتحت أبواب الرحمة». وأخرج البخاري عن أبي هريرة أيضا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين».
(ومن صامه) أي رمضان (أو قامه) أي صلى بالليل قيامه المشروع فيه (إيمانا) أي حال كونه مؤمنا أي مصدقا مشروعية صيامه وقيامه وبما في ذلك من الثواب (واحتسابا) أي وحال كونه محتسبا صيامه وقيامه عند الله بأنْ صامه لوجه الله لا رياء ولا سمعة ولا لغرض دنيوي، (غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر) أي ذنوبه كلها، ما تقدّم منها قبل صومه رمضان وقيامه فيه وما تأخر منها عن ذلك أي ما سيحدث له من ذنب بعد ذلك، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» أخرجه الشيخان وأحمد، وزاد أحمد «وما تأخر».
وحديث أبي هريرة أيضا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» أخرجه البخاري والنسائي في السنن الكبرى وزاد: «وما تأخّر». قال في الفتح: ظاهر الحديث يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر، وقال النووي: المعروف أنّه يختص بالصغائر وبه جزم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة.
(وفيه) أي في رمضان (ليلة القدر) لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... الآية}[البقرة:185 وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر}[القدْر:1] فدل مجموع الآيتين على أنّ ليلة القدر في رمضان جزما والله أعلم.
(وتلتمس) ليلة القدر أي تطلب (في العشر الأواخر) من رمضان (في أوتارها) أي العشر الأواخر لحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان -أي ليلة القدر- في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» أخرجه البخاري.
ولحديث أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر أي من رمضان وقد أريت هذه الليلة ـ يعني ليلة القدرـ ثم أُنسيتها، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر ـــ أي من رمضان ـــ والتمسوها في كل وتر». قال أبوسعيد: (فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبينه وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين)، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان. قال ابن عبد البر: وهو أصح حديث في هذا الباب.
ولحديث عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» أخرجه البخاري.
وحديث ابن عمر أيضا أنّ رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»، أخرجه مالك والشيخان.
وأخرج أحمد عن علي مرفوعا «إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي». وأخرج مسلم عن ابن عمر «التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبنّ على السبع البواقي».
وأخرج مالك في الموطإ والبخاري عن أنس بن مالك قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقال: «إني أريت هذه الليلة حتى تلاحى رجلان فرفعت، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
(والسنة النبوية الاجتهاد) أي بذل الجهد (في العبادة فيها) أي في العشر الأواخر من رمضان لحديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله أي للصلاة، أخرجه الشيخان وأصحاب السنن. ورواية مسلم: جدّ أي في العبادة وشدّ مئزره. قال في الإرشاد عند ابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شدّ المئزر واجتنب النساء. وفي حديث أنس عند الطبراني: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء.
(و) السنة (أمر الصبيان) على الندب (لصوم رمضان) ليتدربوا عليه (إذا أطاقوه) لما أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معلقا ولفظه: وقال عمر رضي الله عنه لنشوان – أي لرجل سكران– في رمضان: ويلك وصبياننا صيام فضربه. أي ويلك تشرب الخمر في رمضان وصبياتنا صيام. وأخرج البخاري أيضا عن الربيع بنت معوّذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطرا فليتم صومه ومن أصبح صائما فليصم. قالت: فكنا نصومه بعد ونصوّم صبياننا. وأخرجه مسلم وزاد: صبياننا الصغار ونذهب بهم إلى المسجد.
قال في الفتح: والجمهور على أنه لا يجب الصوم على من دون البلوغ. واستحب جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري صوم الصبيان، وقال به الشافعي وأنهم يؤمرون للتمرين عليه إذا أطاقوه. وحدّه أي أصحابه أي زمن إطاقتهم له بسبع سنين وعشر سنين كالصلاة. وحدّه إسحاق باثني عشرة سنة. وحدّه أحمد في رواية عنه بعشر سنين. وقال الأوزاعي: صوم ثلاثة أيام متتابعات لا يضعف فيهن حمل على الصوم.
والمشهور عن المالكية أنه لا يشرع في حق الصبيان.
وقد تلطف المصنف في الرد عليهم بإيراده أثر عمر بعد الترجمة لأنّ أكثر ما يعتمدونه في مخالفة الأحاديث دعوى أنّ عمل أهل المدينة على خلافها ولا عمل يستند عليه أقوى من العمل في عهد عمر مع شهرة تحريه ووفور الصحابة في زمنه. وقد قال للذي أفطر في رمضان موبخا له: كيف تفطر وصبياننا صيام.
وأغرب ابن الماجشون فقال: إذا أطاق الصبيان الصيام ألزموه فإن أفطروا بغير عذر فعليهم القضاء.