بمناسبة شهر رمضان المبارك
ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه
من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،
ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.
-النــص:
ومن أفطر في رمضان قضى وكفر إن تعمد، وقيل إنما يكفر من جامع، وهي عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد النبي صلى الله عليه وسلم على التخيير، والإطعام أفضل، أو مرتبة: العتق ثم الصوم ثم الإطعام. وتسقط بالإعسار.
-الشــرح:
(ومنأفطر) بأكل أو شرب أو جماع (في) نهار (رمضانقضى) يوما مكان اليوم (وكفّر) أي لزمته كفارة إن تعمد الفطر لحديث أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللهصلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا. فقال: لا أجد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق تمر فقال صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدّق به، قال: يا رسول الله ما أحد أحوج مني. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال صلى الله عليه وسلم كلْه، أخرجه مالك في الموطإ ومسلم وأبو داود، وفيه ألزم الكفارة لمن أفطر عمدا سواء كان فطره بأكل أو شرب أو جماع لأنه رتّب الكفارة على مطلق الإفطار الشامل للثلاثة، وبه قال مالك وأبوحنيفة وطائفة، والله أعلم.
(وقيل إنما يكفّر من جامع) في نهار رمضان عمدا لحديث أبي هريرة: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا. قال أبو هريرة: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك إذ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعذق تمر قال: أين السائل؟ فقال: أنا فقال صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك. أخرجه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وأحمد والدارقطني والبزار. وبه تمسك الشافعي وأحمد ومن وافقهما في أنّ الكفارة خاصة بالجماع لأنّ الذمة بريئة فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين والله أعلم.
وأما وجوب القضاء مع الكفارة فلما في مرسل سعيد بن المسيب في الموطإ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له أي للرجل المذكور: «صم يوما مكان ما أصبت» وقال في الإرشاد: وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري، ووقعت زيادة الأمر بالقضاء أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب، وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة أصلا. وبه قال الأئمة الأربعة والجمهور وأسقطه بعضهم لأنه لم يرد في خبر عائشة ولا في خبر أبي هريرة ذكره، وعن الأوزاعي أنه إن كفّر بعتق أو إطعام قضى وإن صام شهرين دخل فيها قضاء اليوم. وفي الحديث اختصاص الكفارة بالعمد وهو قول مالك والجمهور خلافا لمن أوجبها على الناسي متمسكا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفسر الرجل عن جماعه أَهَلْ كان عمدا أو عن نسيان وترك الاستفسار في الفعل منزّل منزلة العموم في المقال، وتعقّب بأنه تبين عمده من قوله: احترقت وهلكت، فدلّ على أنه كان عامدا والله أعلم.
(وهي) أي الكفارة (عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد النبي صلى الله عليه وسلم) لحديث أبي هريرة: «أن العرق الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر صاعا» رواه أحمد. وفي حديث عائشة «أنه عشرون صاعا» رواه ابن خزيمة.
وفي مرسل عطاء عند مسرة فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم ببعضه وهو يجمع بين الرواية لمن قال عشرين صاعا أراد أصل ما كان فيه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة. والحديث حجة للجمهور في أنّ الكفارة مد لكل مسكين لأن العرق خمسة عشر صاعا، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهي على التخيير بين الثلاثة عند مالك وجماعة لحديث أبي هريرة عند مالك ومسلم وأبي داود فإنّ فيه: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ... الحديث، وهذه هي صفة التخيير. قال ابن عبد البر: هكذا روى الحديث مالك لم تختلف رواية عليه فيه بلفظ التخيير وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب، قاله محمد بن عبد الباقي.
(والإطعام أفضل) أي من العتق والصوم عند مالك لحديث عائشة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه احترق قال مالك: قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق فقال صلى الله عليه وسلم: أين المحترق. قال الرجل: أنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا، أخرجه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث أنّ الإطعام أفضل لاقتصار عائشة عليه وبه استدلّ مالك على أفضليته والله أعلم.
(أو) هي (مرتبة) لا يجوز الانتقال عن الأول إلى الثاني إلا عند العجز عنه وترتيبها هكذا كما في الحديث، (العتق) هو المقدّم (ثم) يليه (الصوم) أي صوم شهرين متتابعين عند العجز عن العتق (ثم) يليه (الإطعام) أي إطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم لحديث أبي هريرة عند الشيخين فإنّ فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: هل تجد رقبة تعتقها. قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، قال: لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا قال: لا... الحديث. فظاهره أنّ الكفارة مرتّبة هكذا. وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وطائفة فقالوا ألاّ ينتقل عن العتق إلاّ عند العجز عنه، ولا عن الصوم إلاّ عند العجز عنه، وأجاب مالك عن هذا الحديث بأنّ الترتيب فيه غير مراد بدليل الاقتصار على الإطعام في حديث عائشة عند الشيخين والله أعلم.
(وتسقط) أي الكفارة (بالإعسار) لحديث الرجل الذي واقع أهله في نهار رمضان لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم سكت عنه لما أخبره بإعساره عن الكفارة، ولما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عذق التمر وأمره أن يتصدّق به وأخبره أنه هو أحوج الناس إليه قال له: كُلْهُ. فدلّ الحديث على أنّ الكفارة ساقطة عنه لعجزه عن الصوم وعسره بالعتق والإطعام واحتياجه لما أعطاه، ولو كانت باقية في ذمته إذا أيسر لأخبره النبي صلى الله عليه وسلم. ودعوى الخصوصية بهذا الرجل تحتاج لدليل لأنها لا تثبت بالاحتمال لأنّ الأصل في الأحكام الشرعية العموم فمن ادّعى خصوصية هذا الحكم بهذا الرجل فعليه البيان والله أعلم. وبه قال الأوزاعي وعيسى بن دينار من المالكية وهو أحد قولي الشافعي.
وقال الجمهور لا تسقط الكفارة بالإعسار، ثم اختلفوا: فقال الزهري: هذا الحكم خاص بهذا الرجل، وإلى هذا أنحى إمام الحرمين، وردّ بأنّ الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ ولم يبين قائله ناسخه.
وقيل المراد بالأهل المأمور بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقتهم من أقاربه وهو قول بعض الشافعية وضعف بالرواية الأخرى التي فيها أطعمه عيالك، وبالرواية المصرحة بالإذن له في أكله أي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم له: كله. وقيل لمّا كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم وهو ظاهر الحديث. قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل إعطاءه لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدّق عليه وعلى أهله كما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن استقرارها في ذمته ليس مأخوذا من الحديث، اهـ من فتح الباري.