هذا الكتاب هو دراسة لنشوء وتطور دولة موريتانيا بمفهومها الحديث حيث كانت بصمات المستعمر واضحة من خلال النظام الإداري الموروث عنه، كما يبين كيف رسخت الأجيال الموريتانية المتعاقبة هذا النظام وطبعته بطابعها الخاص، وكيف مارست هذه الأجيال العمل السياسي انطلاقا من قيم قبلية وجهوية وفئوية ظلت حاضرة لدي النخبة السياسية.وقد تمسكت الأنظمة السياسية المتلاحقة بهذه القيم والممارسات حيث جعلت من المحاصّة والتوازنات القبلية والفئوية أداة "استقرار" للأنظمة بدل اعتماد آليات وأساليب في الحكم تفضي إلي استقرار أساسه التنمية والعدالة. وتبقي المحاصّة في نهاية المطاف-وإن كانت حققت وستحقق لبعض الحكام البقاء فترة من عمر الدولة، ولبعض المواطنين ممن ساحوا في نعمها وزراء أو مدراء إلخ–تبقي لغما يهدد وجود الدولة ووحدة شعبها، وعائقا في وجه التنمية.فالمحاصّة تغيب الأساليب الكفيلة ببناء دولة حديثة تختفي فيها أو تميل إلي الاختفاء تلك التراتبيات الاجتماعية التي غيبت شرائح عريضة من المجتمع عن ممارسة حقها في المواطنة الكاملة كما غيبت الكفاءة وقيم النزاهة في تسيير الشأن العام. وقد نمت في ظل هذه المحاصّة منذ عهد الاستعمار أبشع المظاهر المعيقة للتنمية كالرشوة والزبونية والمحسوبية،فلم تعد الوظائف السامية ومراكز القرار ذات التأثير علي مصير الدولة إلا قطعا من الكعك يوزعها الحاكم وفق مبدأ مقايضة الولاء بالسلطة والنفوذ إذ لا عبرة بالكفاءة. وقد نجمت عن المحاصّة السياسية محاصّة في الاقتصاد والثروة بشكل عام. هذه هي حال معظم أحكام إفريقيا، وكثير من دول العالم الثالث ولا تستثني من ذلك الأحكام التي اتخذت من الأيديولوجيات القومية والاشتراكية شعارات لأن التاريخ كشف أن كثيرا من الحكام الذين تستروا وراء قناع الإيديولوجيات ذات التوجهات الوطنية لم يكونوا في الواقع إلا مستبدين وكانت نظمهم تخفي ممارسات بشعة، طائفية و جهوية و قبلية.
إن هذه الدراسة وغيرها من الدراسات التي تتخذ من التاريخ السياسي موضوعا لها تمثل إنذارا للحكام المستبدين وللنخب التي توطد أنظمتهم كما تشكل توثيقا للأحداث ومادة تسهم في وعي الشعوب بتاريخها. ومن المؤسف أن يكون ذلك التاريخ تاريخ ظلم واستبداد ومن المؤسف كذلك في بلد لا زال يلتمس طريق نهوضه أن يتخذ من ذلك الظلم والاستبداد ذريعة أو مبررا للتشاؤم والتطرف. وإننا إذ نقدم إليك أخي القارئ العربي ترجمة هذا الكتاب الذي صدر باللغة الفرنسية سنة 1992 عن دار كرتلا، ذلك لأنه كتاب يتناول فيه صاحبه بالتحليل حقبة سياسية مهمة من تاريخ بلدنا قلت حولها الدراسات وهي الحقبة التي تغطي ما بين سنة 1946 و 1992. وقد اعتمد المؤلف بالإضافة إلي أعمال نظرية لمفكرين وأساتذة كبار من مثل بيار J. F. BayardوبالاندييBallandierوبردشارPritchard وغلنرGellnerوبالانسBalans و بيير بونتBontePierre وعبد الودود ولد الشيخ AbdelwedoudOuld Cheikh وغيرهم، علي كثير من الملفات بالأرشيف الوطني بنواكشوط وفي فرنسا كما اعتمد كذلك علي كثير من الدراسات النادرة حول موريتانيا، وتعبِّر قائمة المراجع في آخر الكتاب عن غزارة المصادر التي اعتمدها الباحث. يأتي هذا الكتاب بعد ترجمتنا لكتاب إمارة آدرار لبيير بونتومورتانيا من سنة 1900 إلي 1975 لفرانسيس دي شاسيه ومجلدين من رحلات المستكشفين إلي بلادنا وذلك التزاما منا بما وعدنا به للقارئ العربي قبل سنوات من الآن وهو وضع أهم المراجع بين يديه وخاصة كتابات الجامعيين الفرنسيين والمستكشفين بلغته العربية سعيا منا إلى إنارة ذهنه وسد الفراغ الذي تعاني منه الكتابات باللغة العربية التي يتعذر على مؤلفيها الرجوع إلي هذه المراجع في لغتها الأصل.
إن الأعمال التي تناولت هذه الحقبة من تاريخ موريتانيا بالدراسة قليلة وقليلة كذلك الأعمال التي تناولت بالدراسة السلطة و الفاعلين في السياسة من أحزاب سياسية ورجال أعمال ومنظمات بمقاربة علمية تسهم في فهم المجتمع الموريتاني عبر مراحل تطوه. إن نظرة خاطفة إلى المراجع توضح، كما يقول المؤلف: "انعدام مقاربات تحليلية لتناول ظواهر السلطة في موريتانيا حتى بداية السبعينات". ومن بين الدوافع كذلك إلي ترجمة هذا النوع من الكتابات وكما أسلفت في مقدمات الكتب التي سبقت ترجمتها مثل كتاب بيير بونت و فرانسيس دي شاسيه هو الإسهام في وعي المؤلف والقارئ الموريتانيين وتزويدهم برؤى حول هذا المجتمع مختلفة عن تصوراتهم لواقعهم ولتاريخهم والتي غالبا ما تحجب عنهم إذا لم تشفع برؤية أو رؤى خارجية الكثير من المسائل التي يحتاجونها لفهم الحقائق التاريخية والاجتماعية والتطورات السياسية لمجتمعهم. إن رؤى الآخرين قد تتصف ببعض القساوة قساوة تمليها فى كثير من الأحيان طبيعة البحث إلا أنها مفيدة جدا لأنها تضيء النواقص وتكشف الخفي ومواطن القصور مما قد يسهم فى تصحيح المسارات، انظر مثلا حديثه عن القصور في مجال البحث العلمي في هذا البلد: "أما الأعمال المنجزة في مؤسسات التعليم العالي، وهي بالأساس رسائل تخرج فكثيرا ما لا تشفي غليل القارئ، وفيما عدا استثناءات نادرة يبقى الصمت مطبقا حول كل ما يمت بصلة لواقع الحياة الاجتماعية، لأن تناول القضايا السياسية شبه معدوم. وباستثناء حالات معزولة ومتميزة لقلَّتها، فإن الباحثين الموريتانيين معروفون بعدم الإنتاج لأن مهنة البحث لا تجلب لصاحبها التقدير ولا التثمين. وعليه، فإن الحرص على متابعة مسيرة وظيفية هامة يفرض على الباحثين انتهاج حياد مسالم ليس إزاء السلطات فحسب، وإنما أيضا إزاء كل شخصية نافذة قد يعرضها البحث للأضواء والنقد. فالسمعة قيمة أساسية في هذا المجتمع الذي فيه كل الناس يعرف بعضهم بعضا. والكتابة عن الآخر ليست عملا سهلا، خاصة أن الإحساس بالحاجة إلى الكتابة يبقى ضعيفا، بالنظر إلى نقاش الصالونات وإذاعات الرصيف التي تعوض ذلك بجدارة."
إن تهميش الباحثين واستقواء من لا شأن لهم بالمعرفة بالدولة وولوجهم إلي المناصب العليا هو الذي طبع المراحل السياسية للبلد خلال العقود السابقة. وقد لعبت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية دورا كبيرا في الاستعاضة عن البحث العلمي الجاد بالمعلومات الصحفية الضعيفة وكرست سلطة فئة من أنصاف المثقفين وقامت تلك الفئة بتوجيه نظامنا التعليمي وسياساتنا الثقافية. فلم يبق للباحث الذي يحمل مسؤولية إنارة شعبه إلا الانزواء، كما أن الأحكام السياسية المتعاقبة بمواصلتها لسياسات متخلفة وبائدة كسياسة المحاصة -التي هي الداء العضال للمجتمعات التائقة إلي النمو-قد ابتعدت كثيرا عن معايير البحث الجوهري la recherche fondamentale الذي اعتمدته الشعوب المتطورة كأساس لنموها. وهكذا تمر العقود على حكومات عاجزة انشغلت عبر تاريخها بكل أنواع الوعود الفارغة كالوعود بالتعليم الناجع والقضاء علي الفقر "فى سنة كذا" وغيرها مستندة فى ذلك على القبلية والإثنية.
يكشف هذا الكتاب بلغة البحث العلمي عن أن الأحكام السياسية ظلت تسخر من مواطنيها لأنها أدركت أن البحث الجوهري الذي يسهم في بناء الذاكرة القوية معدوم ولذا فإنها لا تستحي -كلما جاء نظام جديد-من أن تعمد إلي تكرار نفس أخطاء الماضي والمتعلقة بالوعود ببناء الأمة وبتعليم قوي، مطمئنة أن الطبقة السياسية التي خلقتها الأنظمة قبلها من سياسيين ورجال أعمال وسماسرة ستضمن لها الولاء كما حدث لأنظمة قبلها. وفي هذا الإطار يتنزل بحث مرشزنن والذي يمكن أن يستخلص منه أن الممارسة السياسية لم تخرج فى يوم من الأيام عن نطاق القبيلة والجهة والإثنية، وأن الطبقة السياسية في هذا البلد لم تنجح في بناء مجتمع متجانس لأنها غيبت البحث العلمي المفضي إلي الوعي والوعي بالتاريخ -لا التاريخ المشوه-التاريخ الذي يخفف من الهمجية التي قد تبرز في مجتمعات غير متجانسة. ويصور الباحث الأنظمة المتعاقبة على البلاد بأنها اهتمت بمصالح أفرادها الشخصية مقتسمة الوظائف الدافعة لعجلة التنمية بين زبنائها فقضت بذلك علي كل أمل في النمو.
وتأتي ترجمة هذا الكتاب في وقت يمارس فيه كثير من الموريتانيين العمل السياسي الذي يحتاج المشتغل به إلي نبذة تاريخية عن الممارسة السياسية وخاصة خلال العقود الأخيرة وتلك التي بدأت مع فترة الاستعمار وإبانه كما فى كتاب فرانسيس دي شاسيه أما الفترات التي شهدت الأنظمة الأميرية فيمكن الرجوع إلي كتاب إمارة آدرار ليتبين القارئ من خلاله نموذجا للبحث حول الممارسة السياسية إبان القرون السابقة. وكما فعلنا مع كتاب إمارة آدرار ولخشيتنا من الوقوع في ما لا يتقبله البعض، حرصنا في هذه الترجمة أن نشير إلي بعض الأسماء بفلان أو الفلانيين ،وعلي القارئ العودة إلي النسخة الفرنسية إذا كان يرغب في معرفة المعنيِّ أو المعنيين. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن نشكر جامعة انواكشوط والتعاون الفرنسي والصندوق الوطني للتأمين الصحي لمساعدتهم على سحب هذا الكتاب بعد إنجازنا للترجمة فلهم مني جزيل الشكر والعرفان. وشكري للأستاذ مرشزنMarchesinوالأستاذ عبد الودود ولد الشيخ وزميلي الراحل بيير بونتPirreBonte والمدير السابق لدار كارتلا روبير آجنو Robert Ageneau لما بذلوه من أجل تسهيل إجراءات نشر هذا الكتاب باللغة العربية.
الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب