طباعة
الزيارات: 1731
بمناسبة شهر رمضان المبارك
 ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه
 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،
         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.


  -النص:
وفي الحجامة دليلان، والراجح نسخ الفطر. ومن لم يدع قول الزور والعمل به فصومه ناقص. ويكره الوصال وقيل يجوز للسحر. ومن أفطر يظن الغروب وأخطأ قضى. ومن أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه ولا قضاء.

  -الشرح:
(وفي الحجامة دليلان) من السنة: هل تفطر الصائم أو لا؟ أما دليل عدم الإفطار بها فحديث أبي سعيد قال: «أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم» أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني. قال ابن حزم: وإسناده صحيح. وأخرج مالك في الموطإ عن ابن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام يحتجم حتى يفطر. قال الباجي لما كبر ابن عمر وضعف خاف أن تضطره الحجامة إلى الفطر فتركها وكان يحتجم في حال قوة يأمن فيها الضعف ثم ترك خيفة الضعف لما أسن.
وأخرج مالك في الموطأ أيضا أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، قال البخاري ويذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صياما. هكذا أخرجه البخاري معلقا وأخرجه بن أبي شيبة عنهم موصولا. وأما دليل الإفطار بالحجامة فهو ما أخرجه البخاري عن الحسن عن غير واحد أي من الصحابة مرفوعا فقال أفطر الحاجم والمحجوم قال البخاري وقال لي عباس حدثنا عبد الأعلى حدثنا يونس عن الحسن مثله، قيل له أي للحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ثم قال الله أعلم، أخرجه النسائي موصولا.
قال في الفتح: الجمهور على عدم الفطر بالحجامة، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبي ثور ويفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب عليهما الكفارة. وقال بوجوب القضاء عليهما من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وابو الوليد النيسابوري. ونقل الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث وبذلك قال الداودي من المالكية.
(والراجح) في الحجامة (نسخ) حديث (الفطر) بها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم بحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قال في الإرشاد: حديث ابن عباس ناسخ لحديث أفطر الحاجم والمحجوم لأنّه جاء في بعض طرقه أنّ ذلك كان في حجة الوداع سنة عشر، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم في الفتح سنة ثمان قبله بعامين. قال الشافعي: فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ وحديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ. وقال ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب. لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح. فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدلّ على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما.
قال في الفتح: والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفطر هذا ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم.
وفي البخاري عن ثابت البناني أنه سأل أنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام.
(ومن لم يدع) أي يترك (قول الزور) أي الكذب والميل عن الحق في الصوم (و) لم يدع (العمل به) أي بالزور والباطل (فصومه ناقص) أي لا ثواب فيه، ولكنه مجزي لحديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة. وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقاتٌ: من لم يدع الخنا والكذب فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه. ويدخل في قول الزور والعمل به جميع المعاصي لمن لم يتركها في الصوم فصومه ناقص. قال في الإرشاد: والجمهور على أنّ الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم. وعن الثوري - كما في الإحياء - أنّ الغيبة تفسده، قال: وروى الليث عن مجاهد: خصلتان تفسدان الصوم: الغيبة والكذب. هذا لفظه. والمعروف عن مجاهد: خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب. رواه ابن أبي شيبه. والصواب الأول. نعم هذه الأفعال تنقص الصوم. أي لأنها محرمة أصالة ويتأكّد تحريمها في الصوم لما فيها من الاستهانة به، ولذلك ورد النهي عنها في خصوص الصوم. ففي الموطإ والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم. والرفث: فحش الكلام، والجهل: كلام السفه. قال محمد بن عبد الباقي عند قوله: الصيام جنة: أي وقاية وستر قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها، ولذا قيل إنه لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين، وقيل جنة من النار، وبه جزم ابن عبد البر لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها. وقد زاد الترمذي وسعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد: جنة من النار. ولأحمد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة: جنة وحصن حصين من النار. وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاص: جنة كجنة أحدكم من القتال، وللطبراني عنه: جنة يستجنّ بها العبد من النار. وللبيهقي عنه: جنة من عذاب الله، ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح: الصيام جنة ما لم يخرقها، زاد الدارمي بالغيبة. والتفسيران متلاقيان لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترا له من النار. وفي الإكمال معناه أنه يستر من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النووي.
(ويكره الوصال) أي مواصلة الصوم بأن يصوم الليل مع النهار لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة:187]، فمفهوم الغاية النهي عن الوصال، ولحديث ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله فإنك تواصل فقال صلى الله عليه وسلم: إني لست كهيئتكم إني أُطْعَمُ وأُسْقَى، أخرجه مالك في الموطإ والبخاري ومسلم، وحديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والوصال إياكم والوصال قالوا فإنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، أخرجه مالك في الموطإ وأحمد وابن أبي شيبه، وأخرج البخاري ومسلم عن أنس نحوه، وأخرجا عن عائشة قالت: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم.
وروى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وغيرهم بإسناد صحيح عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل. قال في الإرشاد: والنهي يقتضي الكراهة وهل هي للتنزيه أو التحريم؟ الأصح عند الشافعية التحريم وكرهه مالك.
وقال محمد بن عبد الباقي: والنهي عن الوصال للكراهة عند مالك والجمهور لمن قوي عليه وغيره ولو إلى السحر لعموم النهي، وقيل للتحريم وهو الأصح عند الشافعية. وأجازه جماعة وقالوا النهي عنه رحمة وتخفيف لمن قدر فلا حرج، لحديث الصحيحين عن عائشة قالت: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم.
(وقيل يجوز) الوصال (للسحر) أي إلى السحر لحديث أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، أخرجه البخاري. قال في الإرشاد: وهو أي جواز الوصال إلى السحر قول اللخمي من المالكية ونقل عن أحمد بن حنبل وعبارة المرداوي في تنقيحه: ويكره الوصال ولا يكره إلى السحر نصا وتركه أولى. وقال به ابن خزيمة من الشافعية وطائفة من أهل الحديث. وقال في الفتح: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر.
ويجوز الوصال مطلقا لمن لا يشق عليه عند ابن الزبير وأخت أبي سعيد من الصحابة، ومن التابعين عبد الله بن أبي نعيم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي. قال في الفتح: وروى ابن أبي شيبه عن ابن الزبير بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما.
(ومن أفطر) في نهار رمضان (يظن الغروب) أي غروب الشمس (فأخطأ) أي تبين له أن الشمس لم تغرب (قضى) يوما مكان ذلك اليوم بعد أن يمسك بقيته لحديث هشام بن عرفة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق لإ قالت: أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس . قيل لهشام فأمروا بالقضاء ؟ قال لابد من قضاء، أخرجه البخاري وأبو داود وابن خزيمة وابن أبي شيبه وأحمد في مسنده.
وفي الموطإ عن عمر أنه أفطر ذات يوم في رمضان في يوم غيم ورأى أنه قد أمسي فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين طلعت الشمس. فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا في الوقت. قال مالك: يريد بقوله الخطب يسير: القضاء.
وروى عبد الرزاق عن عمر أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا، يقضي يوما. وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنفية ولا كفارة. قال في الإرشاد: وحكي في الرعاية من كتب الحنابلة: لا قضاء على من جامع يعتقده ليلا فبان نهارا، لكن الصحيح من مذهبهم وجزم به الأكثر أنّ عليه القضاء والكفارة، وقد روي عن مجاهد وعطاء وعروة بن الزبير أنه لا قضاء عليه، وجعلوه بمنزلة من أكل ناسيا، وعن عمر يقضي، وفي رواية أخرى عنه لا يقضي رواهما البيهقي؛ وضعفت الرواية الثانية النافية للقضاء.
(ومن أكل أو شرب) في نهار رمضان حال كونه (ناسيا) صومه (فليتمّ صومه) بقية يومه (ولا قضاء) عليه لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نسي فأكل أوشرب فليتم صومه فإنّما أطعمه الله أو سقاه أخرجه البخاري. وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة. وأخرج أحمد عن أمّ إسحاق أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأوتي بقطعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين: آلآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك. وأخرج عبد الرزاق عن عمر وابن دينار أنّ إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائما فنسيت فطعمت. فقال: لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت وشربت. قال: لا بأس الله أطعمك وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت. قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. قال في الفتح: قال ابن العربي: تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث يعني حديث البخاري المتقدم وتطلّع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليها لأنّ الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فمن أكل أو شرب ناسيا فقد ترك ركنه فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة فتبطل صلاته، لأنّ الركن جزء الماهية تنعدم بانعدامه، ثم قال ابن حجر في الفتح: وقد أفتى به - أي بعدم القضاء – على من أكل ناسيا في رمضان جماعة منهم زيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر ثم وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] والنسيان ليس من كسب القلب ولا شك أنّ من ألزم القضاء قد ووخذ وموافق للقياس أيضا في إبطال الصلاة بعد الأكل والشرب دون نسيانه، وكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل.