من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

بمناسبة شهر رمضان المبارك

ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

ويتميز هذا النص بحرص المؤلف - رحمه الله- فيه على تأصيل الأحكام التي يوردها.

النص:

وللهرم العاجز عن الصوم أصلا والحاملِ والمرضعِ، الفطرُ مع الفدية إطعام مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم ولا قضاء. والراجح أن على الحامل والمرضع القضاء، وهو على التراخي، ولا بأس بتفريقه، وتتابعُه أفضل، وقيل واجبٌ. ومن فرَّط فيه حتى دخل رمضان الثاني أطعم مع القضاء عن كل يوم مسكينا بمد النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

(وللهرم) أي الكبير جدا من رجل أو امرأة (العاجز عن الصوم أصلا) أي في كل زمن (و) المرأة (الحامل و) المرأة (المرضع) أي التي ترضع ولدها (الفطرُ) في رمضان (مع الفدية) ندبا، وهي (إطعام مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم) عند القضاء.

أما الهرم فلِما أخرجه مالك في الموطإ عن أنس أنه كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي. وأما الحامل فلِما في الموطإ أيضا أنّ ابن عمر سئل عن الحامل إذا خافت على ولدها واشتدّ عليها الصيام قال: تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينا من حنطةٍ بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما المرضع فلما أخرجه البيهقي وأبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين أنه نسخ إلا في حق الحامل والمرضع. وروي عن ابن عباس في الآية أيضا أنها محكمة في الشيخ الكبير العجوز الهرم قاله في الإرشاد، وروي عن ابن عمر أنها محكمة فيها أيضا. وفي كشف الغمة: كان صلى الله عليه وسلم يرخص في الفطر للمريض والشيخ والعجوز والحامل والمرضع، وقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قد وضع عن الحامل والمرضع الصوم، وكان ابن عباس يقول في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة:184]: كان من أراد أن يفطر في رمضان ويفتدي فعل، حتى نزل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185] فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح إذا لم يكن حاملا ولا مرضعا ورخّص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للحامل والمرضع والكبير الذي لا يقدر على الصيام من الرجال والنساء فيطعم كل منهم مكان كل يوم مسكينا.

(ولا قضاء) على الجميع مع الفدية لحديث أنس في الهرم أنه يفتدي فقط كما تقدّم عن الموطأ. ولحديث ابن عباس عند البيهقي في الحامل والمرضع أنّ عليهما الفدية فقط، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة:184] وقال: إنها محكمة فيهما. وفي رواية عنه إنها محكمة في الهرم معهما أيضا، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله قد وضع عن الحامل والمرضع الصوم» كما في كشف الغمة، وهو رواية شاذة عن مالك في الحامل والمرضع نقلها ابن عبد البر وعياض أنّ على الحامل والمرضع الفدية فقط ولا قضاء عليهما . وأما الهرم فمشهور مذهب مالك أن ليس عليه إلا الفدية.

(والراجح) عند جمهور العلماء (أنّ على الحامل والمرضع القضاء) أي قضاء رمضان، والأصل في وجوبه عليهما الأمر الأول الوارد بوجوب صوم رمضان وهو قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]، قالوا: لأنه يستلزم وجوب القضاء عند زوال العذر، وأما الفدية فالراجح نفيها عن الحامل لأنها مريضة حكما فهي داخلة في قوله تعالى:{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]. قال مالك في الموطإ: وأهل العلم يرون على الحامل القضاء فقط بلا إطعام خلافا لابن عمر، ويرون ذلك -أي الحمل- مرضا من الأمراض مع الخوف على ولدها. قال ابن عبد الباقي: بخلاف المرضع الخائفة على ولدها فتقضي وتطعم وهذا هو المشهور من أقوال مالك، وجزم ابن عبد البر بأن الحامل تطعم مع القضاء وعزاه لطائفة منهم مالك في قول، وثالث أقواله: يطعمان ولا قضاء عليهما.

(وهو) أي القضاء واجب (على التراخي) لا على الفور لحديث عائشة في الموطأ والصحيحين والسنن قالت: كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان، قال يحيى: الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: فما نقدر أن نقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان فحذف لفظ "قال يحيى...إلخ". قال في الإرشاد: فهو نص في كونه من قولها. قال في اللامع: وفيه نظر لأنه ليس فيه تصريح بأنه من قولها فالاحتمال باق. ومعنى شغلها بالنبي صلى الله عليه وسلم أنها تتوقع حاجته فيها، وأما في شعبان فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه فتتفرّغ عائشة فيه لقضاء صومها، وفي هذا دليل واضح على أنّ قضاء رمضان واجب في جميع العام على التراخي وهو قول الجمهور والله أعلم.

ويدل له أيضا ما رواه الترمذي وابن خزيمة عن عائشة قالت: ما قضيت مما يكون عليّ من رمضان إلاّ في شعبان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم.

(ولابأس بتفريقه) أي قضاء رمضان لما أخرجه البخاري عن ابن عباس معلقا ولفظه: وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق –أي قضاء رمضان- لقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وأخرج عبد الرزاق أثر ابن عباس هذا متصلا عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فيمن عليه قضاء رمضان قال: يقضيه مفرقا قال تعالى:{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وأخرج الدارقطني من وجه آخر عن معمر بسنده قال: صُمْه كيف شئت أي مفرقا أو متتابعا، وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس وأبا هريرة قالا: فرقه إذا أحصيته، انتهى من الفتح. وفي الدارقطني بإسناد ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن قضاء رمضان فقال: إن شاء فرّقه وإن شاء تابعه.

(وتتابعه أفضل) أي مستحب لقول عائشة: نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) ثم سقطت متتابعات أي نسخت أي نسخ الوجوب وبقي الاستحباب، وهذا هو مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة.

(وقيل) تتابعه أي قضاء رمضان (واجب) لما أخرجه مالك في الموطإ عن نافع أنّ ابن عمر يقول بصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو في سفر.

قال في الفتح: ونقل ابن المنذر وغيره عن عائشة وعليّ وجوب التتابع وهو قول بعض أهل الظاهر وروى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه يقضيه متتابعا اهـ، وقال به من التابعين الحسن والشعبي والله أعلم.

(ومن فرط فيه) أي في قضاء رمضان (حتى دخل) عليه (رمضان الثاني أطعم مع القضاء عن كل يوم مسكينا بمد) يعطيه إياه وجوبا، وهو مدّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري عن أبي هريرة وابن عباس معلقا ولفظه: ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم.

أما أثر أبي هريرة فقد أخرجه عبد الرزاق عنه متصلا وأخرجه الدارقطني مرفوعا من طريق مجاهد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما أثر ابن عباس فقد أخرجه سعيد بن منصور والدارقطني متصلا، قال في الإرشاد: ورد عن جماعة من الصحابة وجوب الإطعام على المفرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه الثاني منهم أبو هريرة وابن عباس كما مرّ وعمر بن الخطاب فيما ذكره عبد الرزاق وهو قول الجمهور خلافا للحنفية. قال الماوردي: وقد أفتى بالإطعام ستة من الصحابة ولا مخالف لهم.

بمناسبة شهر رمضان المبارك

 ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.                 

النص:

 ويجوز فطر المريض والمسافر في رمضان. وإنشاء السفر فيه. وفطر يوم الخروج عند انفصاله، وفي أثنائه بعد تبييت الصوم، والراجح منعه فيهما، ومن صام أجزأه، وهو أفضل، أو الإفطار، أو أيسرهما، أو مخير، وإن علم قدومه غدوة فليصم.

الشرح:

(ويجوز فطر المريض والمسافر في رمضان) لقوله تعالى:  { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]، ولقوله تعالى: {ِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:185]، ولحديث  حمزة الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان. وأخرج الثلاثة عن أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم عن أبي سعيد نحوه. وأخرج الشيخان عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة.

(و) يجوز (إنشاءالسفرفيه) أي في رمضان بعدما شهد الشهر في الحضر لحديث ابن عباس لإ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، أخرجه الشيخان ومالك في الموطإ. قال في الفتح: والحديث نصّ في جواز إنشاء السفر في رمضان إذ لا خلاف أنّه صلى الله عليه وسلم استهلّ عليه رمضان وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائها. وفي شرح محمد بن عبد الباقي أنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لعشر خلون من رمضان يوم الأربعاء.

(و) يجوز (فطريومالخروج) من البلد (عندانفصاله) عن البلد بعد تبييت الصوم في الحضر لحديث جعفر عن أبي بصرة الغفاري قال: لما جاوز أبو بصرة البيوت دعا بالسفرة أي ليأكل منها، قال جعفر فقلت له: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال جعفر: فأكل، أخرجه أبو داود. وحديث أنس أنه كان إذا أراد أن يسافر يفطر في الحضر قبل أن يركب، أخرجه البيهقي وابن أبي شيبه. وحديث أبي الدرداء قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة، أخرجه الشيخان.

و بجواز فطر يوم الخروج قال الحسن والشافعي في رواية وأحمد وابن حبيب والمزني وإسحاق بن راهويه.

(و) يجوز الفطر (فيأثنائه) أي السفر (بعدتبييت) نية (الصوم) في السفر لحديث ابن عباس المتقدم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح صائما فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان. وحديث جابر عند مسلم والترمذي نحوه وزاد فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون إلى ما فعلت. فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء فوضعه على راحلته ليراه الناس فشرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب. فقيل له بعد ذلك أنّ بعض الناس قد صام فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك العصاة. وفي الصحيحين عن طاووس: ثم دعا بماء فرفعه إلى يده، وفي أبي داوود: فرفعه إلى فيه فأفطر. وللبخاري عن عكرمة عن ابن عباس: بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته.

وفي الموطإ في آخر هذا الحديث: وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المازري: واحتج بهذا الحديث مطرف ومن وافقه من المحدثين على أنّ من بيّت الصوم في رمضان في السفر فله أن يفطر، وهو أحد قولي الشافعي، ومنعه الجمهور قالوا: لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيّته لزمه، وحملوا الحديث على أنّه صلى الله عليه وسلم أفطر للتقوّي على العدوّ للمشقة الحاصلة له ولهم. قاله ابن عبد الباقي. وقال ابن حجر في فتح الباري: واستدلّ بالحديث على أنّ للمسافر أن يفطر في السفر في أثناء النهار ولو نوى الصوم من الليل وأصبح صائما.

(والراجح منعه) أي الفطر (فيهما) أي المسألتين: مسألة الفطر في يوم الخروج، ومسألة الفطر في النهار في أثناء السفر بعد تبييت الصوم فيهما، وهو مذهب الجمهور. وحجتهم قوله تعالى: {أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}[البقرة:187]  فإنه تعالى أمر بإتمام الصوم الذي شرع فيه والأمر للوجوب، وقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}[محمد:33]  فإنه تعالى نهى في الآية عن إبطال العمل الصالح بعد الشروع فيه والنهي للتحريم.

(ومنصام) رمضان في السفر (أجزأه) صومه عن رمضان لحديث ابن عباس لإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان والترمذي. وحديث أبي سعيد قال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صيام فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحو عدوّكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة، أخرجه مسلم وابن عبد البرّ. وحديث أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

ففي هذه الأحاديث أنّ من صام رمضان في السفر أجزأه عن رمضان وهو مذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة وخالف في ذلك جماعة: عمر وابنه وأبو هريرة وعبد الرحمن بن عوف من الصحابة، والنخعي والزهري وأهل الظاهر من التابعين وتابعيهم. وحجتهم قوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]، فقالوا: جعل الله فرض المريض والمسافر الصوم في عدة أيام أخر أي في غير أيام رمضان، فإذا صام قبل الزمن الموقت لصومه لم يجزئه، واحتجوا بحديث الشيخين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى في سفر زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر، ولفظ مسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، وزاد بعض الرواة: عليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم. قالوا: وما لم يكن من البر فهو من الإثم. وفي الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يصوم في السفر، قال محمد بن عبد الباقي لأنه كان يرى أن الصوم في السفر لا يجزي.

(وهو) أي صوم رمضان في السفر (أفضل) من الإفطار لقوله تعالى: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}[البقرة:184]، ولما ثبت من صومه صلى الله عليه وسلم في السفر كما في حديث ابن أبي أوفى وأبي الدرداء وحديث ابن عباس عند الشيخين كما قدمنا وهو مذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبو حتيفة.

(أوالإفطار) في السفر أفضل لحديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم فقال: ليس من البر الصوم في السفر، أخرجه الشيخان. ولحديث أنس قال: كنا مع النبي  صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال  صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر، أخرجه مسلم. وأخرج أيضا عن حمزة السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح أي في الفطر فقال صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، قال عياض: احتج به من قال الفطر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم فيه فحسن، وقال في الصوم فلا جناح، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق.

(أو) الأفضل (أيسرها) عليه لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] فمن كان الصوم أيسر عليه فهو أفضل ومن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل له وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر.

(أو) هو (مخير) فإن شاء صام وإن شاء أفطر لحديث حمزة السلمي قال: يا رسول الله إني رجل أصوم أفأصوم في السفر؟ فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، أخرجه مالك في الموطأ والشيخان. وأخرج أبو داود والحاكم عن حمزة أنه قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان في السفر وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا علي فقال  صلى الله عليه وسلم: إن شئت ذلك فافعل.

(وإنعلم) أي المسافر (قدومه) لبلده (غدوة) أي أول النهار (فليصم) ندبا عند مالك لما أخرجه في الموطأ عن عمر بن الخطاب ؛: أنه إذا كان في سفر في رمضان فعلم أنه داخل المدينة من أول يومه دخل وهو صائم. قال مالك ومن كان في سفر فعلم أنه داخل على أهله من أول يومه وطلع له الفجر قبل أن يدخل دخل وهو صائم، أي استحبابا كما قال الإمام نفسه في مختصر ابن عبد الحكم. وقال أبو حنيفة يجب عليه إمساك بقية يومه إذا دخل على أهله في رمضان نهارا. واحتج له أصحابه باتفاقهم على أنّ من أصبح في أول يوم رمضان مفطرا ثم صح أنه من رمضان أنه يمسك بقية يومه وليس بحجة. والفرق بينهما أن المسافر ونحوه له الفطر مع العلم برمضان للعذر، والجاهل بدخول الشهر ليس جهله بدافع عنه الواجب إذا علمه قاله أبو عمر.

بمناسبة شهر رمضان المبارك

ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.

-النــص:

ومن أفطر في رمضان قضى وكفر إن تعمد، وقيل إنما يكفر من جامع، وهي عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد النبي صلى الله عليه وسلم على التخيير، والإطعام أفضل، أو مرتبة: العتق ثم الصوم ثم الإطعام. وتسقط بالإعسار.

-الشــرح:

 (ومنأفطر) بأكل أو شرب أو جماع (في) نهار (رمضانقضى) يوما مكان اليوم (وكفّر) أي لزمته كفارة إن تعمد الفطر لحديث أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللهصلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا. فقال: لا أجد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق تمر فقال صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدّق به، قال: يا رسول الله ما أحد أحوج مني. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال صلى الله عليه وسلم كلْه، أخرجه مالك في الموطإ ومسلم وأبو داود، وفيه ألزم الكفارة لمن أفطر عمدا سواء كان فطره بأكل أو شرب أو جماع لأنه رتّب الكفارة على مطلق الإفطار الشامل للثلاثة، وبه قال مالك وأبوحنيفة وطائفة، والله أعلم.

(وقيل إنما يكفّر من جامع) في نهار رمضان عمدا لحديث أبي هريرة: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا. قال أبو هريرة: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك إذ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعذق تمر قال: أين السائل؟ فقال: أنا فقال صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك. أخرجه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وأحمد والدارقطني والبزار. وبه تمسك الشافعي وأحمد ومن وافقهما في أنّ الكفارة خاصة بالجماع لأنّ الذمة بريئة فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين والله أعلم.

وأما وجوب القضاء مع الكفارة فلما في مرسل سعيد بن المسيب في الموطإ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له أي للرجل المذكور: «صم يوما مكان ما أصبت» وقال في الإرشاد: وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري، ووقعت زيادة الأمر بالقضاء أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب، وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة أصلا. وبه قال الأئمة الأربعة والجمهور وأسقطه بعضهم لأنه لم يرد في خبر عائشة ولا في خبر أبي هريرة ذكره، وعن الأوزاعي أنه إن كفّر بعتق أو إطعام قضى وإن صام شهرين دخل فيها قضاء اليوم. وفي الحديث اختصاص الكفارة بالعمد وهو قول مالك والجمهور خلافا لمن أوجبها على الناسي متمسكا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفسر الرجل عن جماعه أَهَلْ كان عمدا أو عن نسيان وترك الاستفسار في الفعل منزّل منزلة العموم في المقال، وتعقّب بأنه تبين عمده من قوله: احترقت وهلكت، فدلّ على أنه كان عامدا والله أعلم.

(وهي) أي الكفارة (عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد النبي صلى الله عليه وسلم) لحديث أبي هريرة: «أن العرق الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر صاعا» رواه أحمد. وفي حديث عائشة «أنه عشرون صاعا» رواه ابن خزيمة.

وفي مرسل عطاء عند مسرة فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم ببعضه وهو يجمع بين الرواية لمن قال عشرين صاعا أراد أصل ما كان فيه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة. والحديث حجة للجمهور في أنّ الكفارة مد لكل مسكين لأن العرق خمسة عشر صاعا، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهي على التخيير بين الثلاثة عند مالك وجماعة لحديث أبي هريرة عند مالك ومسلم وأبي داود فإنّ فيه: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ... الحديث، وهذه هي صفة التخيير. قال ابن عبد البر: هكذا روى الحديث مالك لم تختلف رواية عليه فيه بلفظ التخيير وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب، قاله محمد بن عبد الباقي.

(والإطعام أفضل) أي من العتق والصوم عند مالك لحديث عائشة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه احترق قال مالك: قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق فقال صلى الله عليه وسلم: أين المحترق. قال الرجل: أنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا، أخرجه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث أنّ الإطعام أفضل لاقتصار عائشة عليه وبه استدلّ مالك على أفضليته والله أعلم.

(أو) هي (مرتبة) لا يجوز الانتقال عن الأول إلى الثاني إلا عند العجز عنه وترتيبها هكذا كما في الحديث، (العتق) هو المقدّم (ثم) يليه (الصوم) أي صوم شهرين متتابعين عند العجز عن العتق (ثم) يليه (الإطعام) أي إطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم لحديث أبي هريرة عند الشيخين فإنّ فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: هل تجد رقبة تعتقها. قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، قال: لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا قال: لا... الحديث. فظاهره أنّ الكفارة مرتّبة هكذا. وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وطائفة فقالوا ألاّ ينتقل عن العتق إلاّ عند العجز عنه، ولا عن الصوم إلاّ عند العجز عنه، وأجاب مالك عن هذا الحديث بأنّ الترتيب فيه غير مراد بدليل الاقتصار على الإطعام في حديث عائشة عند الشيخين والله أعلم.

(وتسقط) أي الكفارة (بالإعسار) لحديث الرجل الذي واقع أهله في نهار رمضان لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم سكت عنه لما أخبره بإعساره عن الكفارة، ولما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عذق التمر وأمره أن يتصدّق به وأخبره أنه هو أحوج الناس إليه قال له: كُلْهُ. فدلّ الحديث على أنّ الكفارة ساقطة عنه لعجزه عن الصوم وعسره بالعتق والإطعام واحتياجه لما أعطاه، ولو كانت باقية في ذمته إذا أيسر لأخبره النبي صلى الله عليه وسلم. ودعوى الخصوصية بهذا الرجل تحتاج لدليل لأنها لا تثبت بالاحتمال لأنّ الأصل في الأحكام الشرعية العموم فمن ادّعى خصوصية هذا الحكم بهذا الرجل فعليه البيان والله أعلم. وبه قال الأوزاعي وعيسى بن دينار من المالكية وهو أحد قولي الشافعي.

وقال الجمهور لا تسقط الكفارة بالإعسار، ثم اختلفوا: فقال الزهري: هذا الحكم خاص بهذا الرجل، وإلى هذا أنحى إمام الحرمين، وردّ بأنّ الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ ولم يبين قائله ناسخه.

وقيل المراد بالأهل المأمور بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقتهم من أقاربه وهو قول بعض الشافعية وضعف بالرواية الأخرى التي فيها أطعمه عيالك، وبالرواية المصرحة بالإذن له في أكله أي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم له: كله. وقيل لمّا كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم وهو ظاهر الحديث. قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل إعطاءه لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدّق عليه وعلى أهله كما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن استقرارها في ذمته ليس مأخوذا من الحديث، اهـ من فتح الباري.

بمناسبة شهر رمضان المبارك

ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.


  -
النص:

وفي الحجامة دليلان، والراجح نسخ الفطر. ومن لم يدع قول الزور والعمل به فصومه ناقص. ويكره الوصال وقيل يجوز للسحر. ومن أفطر يظن الغروب وأخطأ قضى. ومن أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه ولا قضاء.

  -الشرح:

(وفي الحجامة دليلان) من السنة: هل تفطر الصائم أو لا؟ أما دليل عدم الإفطار بها فحديث أبي سعيد قال: «أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم» أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني. قال ابن حزم: وإسناده صحيح. وأخرج مالك في الموطإ عن ابن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام يحتجم حتى يفطر. قال الباجي لما كبر ابن عمر وضعف خاف أن تضطره الحجامة إلى الفطر فتركها وكان يحتجم في حال قوة يأمن فيها الضعف ثم ترك خيفة الضعف لما أسن.
وأخرج مالك في الموطأ أيضا أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم.

قال البخاري ويذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صياما. هكذا أخرجه البخاري معلقا وأخرجه بن أبي شيبة عنهم موصولا.

وأما دليل الإفطار بالحجامة فهو ما أخرجه البخاري عن الحسن عن غير واحد أي من الصحابة مرفوعا فقال: أفطر الحاجم والمحجوم قال البخاري وقال لي عباس حدثنا عبد الأعلى حدثنا يونس عن الحسن مثله، قيل له أي للحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ثم قال الله أعلم، أخرجه النسائي موصولا.

قال في الفتح: الجمهور على عدم الفطر بالحجامة، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبي ثور ويفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب عليهما الكفارة. وقال بوجوب القضاء عليهما من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وابو الوليد النيسابوري.

ونقل الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث وبذلك قال الداودي من المالكية.
(والراجح) في الحجامة (نسخ) حديث (الفطر) بها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم بحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قال في الإرشاد: حديث ابن عباس ناسخ لحديث أفطر الحاجم والمحجوم لأنّه جاء في بعض طرقه أنّ ذلك كان في حجة الوداع سنة عشر، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم في الفتح سنة ثمان قبله بعامين. قال الشافعي: فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ وحديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ. وقال ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب.

لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح. فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدلّ على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما.

قال في الفتح: والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفطر هذا ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم.

وفي البخاري عن ثابت البناني أنه سأل أنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام.
(ومن لم يدع) أي يترك (قول الزور) أي الكذب والميل عن الحق في الصوم (و) لم يدع (العمل به) أي بالزور والباطل (فصومه ناقص) أي لا ثواب فيه، ولكنه مجزي لحديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة.

وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقاتٌ: من لم يدع الخنا والكذب فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه. ويدخل في قول الزور والعمل به جميع المعاصي لمن لم يتركها في الصوم فصومه ناقص.

قال في الإرشاد: والجمهور على أنّ الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم.

وعن الثوري - كما في الإحياء - أنّ الغيبة تفسده، قال: وروى الليث عن مجاهد: خصلتان تفسدان الصوم: الغيبة والكذب، هذا لفظه. والمعروف عن مجاهد: خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب، رواه ابن أبي شيبه. والصواب الأول. نعم هذه الأفعال تنقص الصوم، أي لأنها محرمة أصالة، ويتأكّد تحريمها في الصوم لما فيها من الاستهانة به، ولذلك ورد النهي عنها في خصوص الصوم.ففي الموطإ والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم. والرفث: فحش الكلام، والجهل: كلام السفه. قال محمد بن عبد الباقي عند قوله: الصيام جنة: أي وقاية وستر قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها، ولذا قيل إنه لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين، وقيل جنة من النار، وبه جزم ابن عبد البر لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها. وقد زاد الترمذي وسعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد: جنة من النار. ولأحمد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة: جنة وحصن حصين من النار.

وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاص: جنة كجنة أحدكم من القتال، وللطبراني عنه: جنة يستجنّ بها العبد من النار.وللبيهقي عنه: جنة من عذاب الله، ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح: الصيام جنة ما لم يخرقها، زاد الدارمي بالغيبة. والتفسيران متلاقيان لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترا له من النار. وفي الإكمال معناه أنه يستر من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النووي.

(ويكره الوصال) أي مواصلة الصوم بأن يصوم الليل مع النهار لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة:187]، فمفهوم الغاية النهي عن الوصال، ولحديث ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله فإنك تواصل فقال صلى الله عليه وسلم: إني لست كهيئتكم إني أُطْعَمُ وأُسْقَى، أخرجه مالك في الموطإ والبخاري ومسلم.

وحديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والوصال، إياكم والوصال، قالوا فإنك تواصل يا رسول الله، قال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، أخرجه مالك في الموطإ وأحمد وابن أبي شيبه. وأخرج البخاري ومسلم عن أنس نحوه، وأخرجا عن عائشة قالت: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم.

وروى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وغيرهم بإسناد صحيح عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل. قال في الإرشاد: والنهي يقتضي الكراهة وهل هي للتنزيه أو التحريم؟ الأصح عند الشافعية التحريم وكرهه مالك..
وقال محمد بن عبد الباقي: والنهي عن الوصال للكراهة عند مالك والجمهور لمن قوي عليه وغيره ولو إلى السحر لعموم النهي، وقيل للتحريم وهو الأصح عند الشافعية. وأجازه جماعة وقالوا النهي عنه رحمة وتخفيف لمن قدر فلا حرج، لحديث الصحيحين عن عائشة قالت: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم.
(وقيل يجوز)الوصال (للسحر) أي إلى السحر لحديث أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، أخرجه البخاري. قال في الإرشاد: وهو أي جواز الوصال إلى السحر قول اللخمي من المالكية ونقل عن أحمد بن حنبل وعبارة المرداوي في تنقيحه: ويكره الوصال ولا يكره إلى السحر نصا وتركه أولى. وقال به ابن خزيمة من الشافعية وطائفة من أهل الحديث. وقال في الفتح: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر.

ويجوز الوصال مطلقا لمن لا يشق عليه عند ابن الزبير وأخت أبي سعيد من الصحابة، ومن التابعين عبد الله بن أبي نعيم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي. قال في الفتح: وروى ابن أبي شيبه عن ابن الزبير بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما.

.(ومن أفطر) في نهار رمضان (يظن الغروب) أي غروب الشمس (فأخطأ) أي تبين له أن الشمس لم تغرب (قضى) يوما مكان ذلك اليوم بعد أن يمسك بقيته لحديث هشام بن عرفة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق لإ قالت: أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس. قيل لهشام فأمروا بالقضاء ؟ قال لابد من قضاء، أخرجه البخاري وأبو داود وابن خزيمة وابن أبي شيبه وأحمد في مسنده.

وفي الموطإ عن عمر أنه أفطر ذات يوم في رمضان في يوم غيم ورأى أنه قد أمسي فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين طلعت الشمس. فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا في الوقت. قال مالك: يريد بقوله الخطب يسير: القضاء.

وروى عبد الرزاق عن عمر أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا، يقضي يوما. وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنفية ولا كفارة. قال في الإرشاد: وحكي في الرعاية من كتب الحنابلة: لا قضاء على من جامع يعتقده ليلا فبان نهارا، لكن الصحيح من مذهبهم وجزم به الأكثر أنّ عليه القضاء والكفارة، وقد روي عن مجاهد وعطاء وعروة بن الزبير أنه لا قضاء عليه، وجعلوه بمنزلة من أكل ناسيا، وعن عمر يقضي، وفي رواية أخرى عنه لا يقضي رواهما البيهقي؛ وضعفت الرواية الثانية النافية للقضاء.

(ومن أكل أو شرب) في نهار رمضان حال كونه (ناسيا) صومه (فليتمّ صومه) بقية يومه (ولا قضاء) عليه لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نسي فأكل أوشرب فليتم صومه فإنّما أطعمه الله أو سقاه أخرجه البخاري.

وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة.

وأخرج أحمد عن أمّ إسحاق أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأوتي بقطعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين: آلآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك. وأخرج عبد الرزاق عن عمر وابن دينار أنّ إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائما فنسيت فطعمت. فقال: لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت وشربت. قال: لا بأس الله أطعمك وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت. قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام.

قال في الفتح: قال ابن العربي: تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث يعني حديث البخاري المتقدم، وتطلّع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليها لأنّ الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فمن أكل أو شرب ناسيا فقد ترك ركنه. فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة فتبطل صلاته، لأنّ الركن جزء الماهية تنعدم بانعدامه. ثم قال ابن حجر في الفتح: وقد أفتى به - أي بعدم القضاء – على من أكل ناسيا في رمضان جماعة منهم زيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر، ثم وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] والنسيان ليس من كسب القلب ولا شك أنّ من ألزم القضاء قد ووخذ وموافق للقياس أيضا في إبطال الصلاة بعد الأكل والشرب دون نسيانه، وكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل.

 

بمناسبة شهر رمضان المبارك

 ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.

النص:                         

ويجوز إصباح الصائم جنبا، والسواك كل النهار، والقبلة مطلقا أو لمن يملك نفسه كالمباشرة، ولا بأس باغتساله، ومضمضته واستنشاقه من غير مبالغة ولبسه ثوبا مبلولا، وذوقه القدر واكتحاله وقيئه غلبة، وفي عمده القضاء.

الشرح:     

(ويجوز إصباح الصائم جنبا) لحديث عائشة (أن رجلا قال لرسول الله صلى  الله عليه وسلم  وهو واقف بالباب وأنا أسمع: يا رسول الله إني أصبحت جنبا وأنا أريد الصيام فقال صلى  الله عليه وسلم: وأنا أصبحُ جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال له الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى  الله عليه وسلموقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتَّقِي) أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وتابعه إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن عبد الرحمن عند مسلم.

ولحديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى  الله عليه وسلم أنهما قالتا: (كان رسول الله صلى  الله عليه وسلميصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم) أخرجه مالك في الموطأ والبخاري وزاد (ثم يغتسل). ورواه مسلم عن مالك بهذا الإسناد الذي في الموطأ، ورواه أيضا من طريق عمرو بن الحارث عن عبد ربه عن عبد الله بن كعب الحميري (أن أبا بكر حدثه أن مروان أرسله إلى أم سلمة يسأل عن الرجل يصبح جنبا أيصوم فقالت: كان صلى  الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم لا يفطر ولا يقضي). [و] لحديث أبي بكر بن عبد الرحمن قال: (كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم الأموي وهو أمير المدينة فذكر له عبد الرحمن أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرجمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلم عليها ثم قال: يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم قالت: عائشة ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله صلى  الله عليه وسلم  يصنع؟ قال عبد الرحمن: لا والله قالت عائشة: فأشهد على رسول الله صلى  الله عليه وسلم  إنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم، ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عبد الرحمن عن ذلك فقالت مثلما قالت عائشة، قال أبو بكر فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا فقال مروان أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ذلك، قال أبو بكر فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ثم ذكر له ذلك، فقال أبو هريرة لا علم لي بذلك، إنما أخبرنيه مخبر)، أخرجه مالك في الموطإ والبخاري ومسلم والنسائي، ولفظ مسلم (فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل بن عباس ولم أسمعه من النبي صلى  الله عليه وسلم)، ولفظ البخاري (فقال: كذلك أخبرني الفضل بن عباس وهو أعلم)، وفي رواية النسفي عن البخاري (وهن أعلم) أي أزواج النبي صلى  الله عليه وسلموفي مسلم: (فقال أبو هريرة: أهما قالتا ذلك؟ قال: نعم قال: هما أعلم ورجع أبو هريرة عما كان يقول)، وللنسائي أن أبا هريرة قال: (أخبرنيه أسامة بن زيد)، وله أيضا (أخبرنيه فلان وفلان) فأرسل الحديث أولا ثم أسنده لما سئل عنه. وحديث الفضل بن عباس في مسلم وحديث أسامة بن زيد في النسائي مرفوعا «من أدركه الفجر جنبا فلا يصم»، وللنسائي عن أبي هريرة (لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم، محمد - ورب الكعبة- قاله).

قال في الفتح: ورجع أبو هريرة عن الفتوى بعدم صحة صوم من أصبح جنبا إما لرجحان رواية أمي المؤمنين في جواز ذلك صريحا على رواية غيرهما معهما من الاحتمال إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب أو على غير الفرض وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم وإما لاعتقاده أن يكون خبر أمي المؤمنين ناسخا لخبر غيرهما.

وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض الشافعية كما نقله الترمذي ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي، وأمّا ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعا أو كالإجماع وذهب ابن المنذر والخطابين وغير واحد وابن دقيق العيد إلى أنّ حديث عائشة وأم سلمة ناسخ حديث أبي هريرة والفضل بن عباس. قال ابن دقيق العيد: ويقوي ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}[البقرة:187]لأنّه يقتضي إباحة الوطء ليلة الصوم، ومن جملة الليلة الوقت المقارب لطلوع الفجر. فيلزم من ذلك إباحة الجماع فيه، ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه، فإنّ إباحة السبب للشيء إباحة لذلك الشيء. قال ابن حجر: وهذا أوّلا من سلوك الترجيح بين الخبرين بأن حديث أمي المؤمنين أسند كما في البخاري.

وقال ابن عبد البر: حديث أمي المؤمنين صح وتواتر وصرح البخاري برجحانه، ولأنه يتضمن قوله، والفعل مرجح على القول عند بعض الأصوليين، ولأنه وافق القرآن لأنه فيه إباحة الجماع إلى الفجر فإذا أبيح حتى يتبين الفجر فمعلوم أن الاغتسال إنما يقع بعده وقد قال تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }[البقرة:187].

(و) يجوز (السواك) أي استياك الصائم (كل النهار) أي في أوله وآخره وفي أي جزء شاء منه لحديث عامر بن ربيعة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى  الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي أو أعدّ) أخرجه أبو داود والترمذي موصولا وقال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه البخاري معلقا. قال البخاري وقال أبو هريرة عن النبي صلى  الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي صلى  الله عليه وسلم ولم يخص أي النبي صلى  الله عليه وسلم الصائم من غيره.

وأخرج ابن أبي شيبه عن ابن عمر أنه قال: (يستاك الصائم أول النهار وآخره). وأخرجه البخاري عنه معلقا ولفظه: وقال ابن عمر: (يستاك أي الصائم أول النهار وآخره).

وبجواز السواك للصائم قال عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي. وقال النووي في شرح المهذب أنه المختار، وكره عطاء ومجاهد والشافعي وإسحاق وأبو ثور السواك للصائم آخر النهار لحديث: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» والسواك يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضله، وإن كان في السواك فضل لكن فضل الخلوف أعظم. وتعقب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية، غايته أنه يخف، وأما الخبر ففائدته عظيمة بديعة وهي أن النبي صلى  الله عليه وسلم إنما مدح الخلوف نهيا للناس عن تقزز مكالمة الصائمين بسبب الخلوف لا نهيا للصائمين عن السواك، وهذا التأويل أولى لأنّ فيه إكرام الصائم، ولا تعرض فيه للسواك، ولذا قال ابن دقيق العيد: يحتاج النهي عن السواك في الصوم إلى دليل يختص به عموم قوله صلى  الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وفي رواية: «عند كل وضوء» وحديث الخلوف لا يخصصه.

(وتجوز) (القبلة) للصائم (مطلقا) أي سواء كان يملك نفسه أم لا وسواء كان شابا أو شيخا لحديث عائشة قالت: «إن كان رسول الله صلى  الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت» رواه مالك في الموطإ والشيخان، وفي الموطإ أيضا عن عطاء بن يسار: (أنّ رجلا قبّل امرأته وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدا شديدا فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى  الله عليه وسلمفذكرت ذلك لها فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى  الله عليه وسلميقبل وهو صائم فرجعت فأخبرت زوجها بذلك فزاده ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله صلى  الله عليه وسلم الله يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلمما شاء ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة فقال رسول الله صلى  الله عليه وسلم: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت: قد أخبرتها فرجعت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله صلى  الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله صلى  الله عليه وسلم  ما شاء فغضب رسول الله صلى  الله عليه وسلم وقال: «والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده». هكذا رواه مالك في الموطإ مرسلا ورواه عبد الرزاق موصولا بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنّ رجلا قبّل امرأته إلى آخر الحديث.

وفي الموطإ عن عائشة بنت طلحة (أنها كانت عند عائشة زوج النبي صلى  الله عليه وسلم فدخل عليها زوجها هنالك وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو صائم فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها؟ فقال: أقبّلها وأنا صائم؟ قالت: نعم). وفيه أيضا (عن زيد بن أسلم أن ابا هريرة وسعد بن أبي وقاص كانا يرخصان في القبلة للصائم).

وأخرج أبو داود والنسائي عن عمر أنه قال: (قبّلت وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبّلت وأنا صائم. قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمَه؟) قال النسائي هذا حديث منكر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قال المازري: أشار صلى  الله عليه وسلم إلى فقه بديع وهو أنّ المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه كما أنّ القبلة مفتاح الجماع، فكما ثبت أن أوائل الشرب لا تنقض الصوم فكذلك أوائل الجماع.

(أو) تجوز القبلة (لمن يملك نفسه) عن الجماع دون من يخاف أن لا يملك نفسه لحديث عائشة زوج النبي صلى  الله عليه وسلم  أنها كانت إذا ذكرت أن رسول الله صلى  الله عليه وسلم  يقبّل وهو صائم تقول: (وأيّكم أملك لنفسه من رسول الله صلى  الله عليه وسلم) رواه مالك في الموطإ والشيخان، وفيه أنّ القبلة تجوز للصائم الذي يملك نفسه عن الجماع دون من لا يملك نفسه والله أعلم. وقال الظاهرية: القبلة للصائم سنة وقربة من القرب اقتداء بفعله صلى  الله عليه وسلم. ورُدَّ بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك نفسه فليس كغيره.

(أو) تجوز القبلة (للشيخ) فقط دون الشباب لأنّ الشيخ يملك نفسه من الوقوع في الجماع لضعف قوته ولا كذلك الشاب، والأصل في ذلك ما رواه في الموطإ عن ابن عباس (أنه سئل عن القبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب). وما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة (أن النبي صلى  الله عليه وسلم  رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب وقال الشيخ يملك إربه والشاب يفسد صومه).

قال محمد عبد الباقي: وبالفرق بينهما قال مالك في رواية والشافعي وأبو حنيفة، وعن مالك كراهتها في الفرض دون النفل والمشهور عنه كراهتها مطلقا.

(كالمباشرة) أي وضع الزوج بشرته على بشرة زوجته، فإنها تجوز لمن يملك نفسه دون من لا يملكها لحديث عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه) رواه البخاري، ورواه الطحاوي عنها أنها قالت: (الصائم يحل له كل شيء إلا الجماع).

وروى النسائي عن الأسود قال: (قلت لعائشة: أيباشر الصائم زوجته؟ قالت: لا، قلت: ليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: كان أملككم لإربه).

(ولا بأس باغتساله) أي الصائم، لما رواه البخاري عن أنس معلقا، ولفظه: وقال أنس: ( إنّ لي أَبْزَنًا-أي حوضا- أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ).

(و) لا بأس (بمضمضة) أي الصائم لحديث عمر قال: (قبّلت وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبّلت وأنا صائم. قال صلى  الله عليه وسلم: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قال عمر: لا بأس به، قال صلى  الله عليه وسلم: فَمَه) رواه أبو داود والنسائي، وفيه أنّ المضمضة تجوز للصائم لأنّ النبي صلى  الله عليه وسلم  جعلها أصلا وقاس عليه القبلة والله أعلم.

(و) لا بأس (باستنشاقه) أي الصائم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره الماء» رواه مسلم مسندا، وأخرجه البخاري مترجما به قال البخاري: ولم يميّز بين الصائم وغيره.

(من غير مبالغة) فيه لحديث لقيط بن صبرة أنّ النبي صلى  الله عليه وسلم  قال له: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة.

(و) لا بـ (لبسه) أي الصائم (ثوبا مبلولا) لما رواه البخاري عن عمر معلقا ولفظه: (وبل ابن عمر لإ ثوبا فألقاه عليه وهو صائم) .

(و) لا بـ(ذوقه) أي الصائم (القدر) أي طعامه هل صلح طعمه أم لا؟ من ابتلاع لما رواه البخاري معلقا ولفظه: (وقال ابن عباس: لا بأس أن يتطعم أي الصائم القدر أو الشيء). وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبه عن ابن عباس موصولا ورواه البيهقي.

(و) لا بـ (اكتحاله) أي الصائم لما رواه البخاري عن أنس معلقا ولفظه: «ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل بأسا» أي إثما. وهذا الأثر رواه أبو داود عن أنس موصولا. قال في الإرشاد: وهذا هو مذهب الشافعية والحنفية، وقال المالكية والحنابلة إن اكتحل بما يتحقق معه الوصول إلى حلقه أفطر.

(و) لا بأس بـ (قيئه) غلبةً أي إنّه لا يبطل لما رواه البخاري عن أبي هريرة ؛ أنّه قال: «إذا قاء الصائم فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج ويذكر أنه يفطر والأول أصح». قال البخاري: وقال ابن عباس وعكرمة الصوم مما دخل وليس مما خرج.

(وفي عمده) أي القيء (القضاء) أي أنّ الصائم إذا استقاء، والأصل في ذلك حديث أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض، رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: والعمل عند أهل العلم عليه. وبه يقول الشافعي وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وقد صححه الحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه ابن حبان.

وقال ابن حجر في الفتح: أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه ومن تعمده وقال ابن بطال وعن ابن عمر وابن مسعود لا يفطر من قاء مطلقا سواء سبقه أو تعمده وهذه إحدى الروايتين عن مالك. واستدل الأبهري على سقوط القضاء عمن استقاء عمدا بأنه لا كفارة عليه على الأصح عندهم، قال فلو وجب القضاء لوجبت الكفارة، وارتكب عطاء والأوزاعي وأبو ثور شططا فقالوا يقضي ويكفّر، ونقل ابن المنذر الإجماع على سقوط القضاء عمن ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن»...