من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

ننشر في هذه الصفحة في حلقات مسلسلة إن شاء الله قطوفا من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم: "نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح"، مركزين على الأحاديث التي أورد فيها الفقيه إضافات طريفة مفيدة ميَّزها، بعد ذكر مختلف الأقوال في الحديث، بعبارة:"قلت".  ولا نلتزم في هذه القطوف ترتيب الأحاديث الوارد في الكتاب. 

 

ص49 (من المجلد 10): 

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ.
الشرح:
"عن ثابت بن الضحاك قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف بغير ملة الإسلام" أي: بدين غير دين الإسلام كأن يقول:"إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي صلى الله عليه وسلم " فهو كما قال،أي فهو كافر إذا تعمد الكذب بذلك...
قال في الفتح: "وفي رواية مسلم من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال"، قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كـ "والله" و"الرحمن".
 وقد يطلق على التعليق بالشيء يمينٌ كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق، وأطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحث أو المنع.
 وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله "كاذبا متعمدا". فيكون الحلف هنا على وجهين: أحدهما أن يتعلق بالمستقبل كقوله إن فعل كذا فهو يهودي، الثاني أن يتعلق بالماضي كقوله إن كان فعل كذا فهو يهودي.
وقد يتعلق بهذا الحديث من لم يوجب الكفارة في هذا اليمين إذا حنث الحالف به لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه قوله " فهو كما قال"، ثم قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم، "أي لملة الكفر المحلوف بها"، وفيه خلاف عند الحنفية لأنه تنجيز معنى فصار كما لو قال هو يهودي، ومنهم من قال: إن كان يعلم أنه يمين لم يكفر وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل.
وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا، والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن اعتقد حقيقة التعليق ينظر: فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر لأن إرادة الكفر كفر وإن أراد البعد عن ذلك الفعل لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها ؟ الثاني هو المشهور . ثم قال: وقوله "كاذبا متعمدا" في رواية مسلم .قال عياض: تفرد بزيادتها سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف المتعمد إذا كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قاله معتقدا لليمين بتلك الملة بكونها حقا عنده كفر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل .
قال ابن حجر: وينبغي أن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كان قبل النسخ لم يكفر. ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم بذلك كأنه قال:" فإنه يستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال"،  ونظيره "من ترك الصلاة فقد كفر" أي استوجب عقوبة من كفر.
وقال ابن المنذر: قوله " فهو كما قال " ليس على ظاهره من نسبته إلى الكفر بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الملة.
(ومن قتل نفسه بشيء من آلات القتل عذب به، أي بذلك الشيء الذي قتل به نفسه في نار جهنم ).
قال في الفتح: قال ابن دقيق العيد: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له مطلقا بل هي لله تعالى فلا يجوز له التصرف فيها إلا بما أذن له فيه.
قيل: وفيه حجة لمن أوجب المماثلة في القصاص خلافا لمن خصه بالمحدود، ورده ابن دقيق العيد بأن أحكام الله في الآخرة لا تقاس عليها أفعال عباده في الدنيا، فليس كل ما ذكر أنه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدنيا كالتحريق بالنار مثلا وسقى الحميم الذي يقطع  الأمعاء. حاصله: أن يستدل للمماثلة في القصاص بغير هذا الحديث وقد استدلوا لها بقوله تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا).
قُلْتُ:
الأحسن في تأويل الحديث أن وجه التشبيه بين لعن المؤمن وقتله وبين تكفيره وقتله أنهما سيان في أصل التحريم لا في مقداره ولا في العقوبة الأخروية ولا في الإيذاء، فيكون الغرض من الحديث بيان تحريم لعن المؤمن وتكفيره وأنه كبيرة كما أن قتله حرام وكبيرة.
وما تقدم عن صاحب المصابيح من أن التشبيه إذا كان في أصل التحريم فقط لم تبق في الحديث كبير فائدة غير صواب، وأي فائدة أكبر من بيان تحريم لعن المؤمن وتكفيره وأن ذلك كبيرة. وأيضا فإن قاعدة التشبيه عند أهل العربية أن يكون المشبه دون المشبه به في وجه التشبيه لأن التشبيه عندهم إلحاق الناقص بالكامل.
فالحاصل أن وجه التشبيه في الحديث بين اللعن والقتل هو التحريم واللعن دون القتل في التحريم أي انه أخف منه فيه، والله أعلم.