من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

التعريف والتقديم:

هو محمد الأغظف بن أحمد مولود بن خي بن محمد عبد الدائم ابن عبد الله بن محم المحظري الإبراهيمي الجكني، وقد عرف بالوسري نسبة إلى حي من قبيلته ، تسمى بهذا الاسم لكونه ينتمى إلى عدة بطون من قبيلة تجكانت، إذ قد خرج مؤسسوه من مدينة تنيكي عند ما لاحت نذر الحرب الأهلية في فضائها، اعتزالا للفتنة وقطع الرحم وسفك الدماء، ونظرا لاشتراكهم في دافع الخروج من المدينة في فترة زمنية واحدة، وانطلاقا من كونهم لا ينتمون كلهم إلى بطن واحد أطلقوا على أنفسهم اسم "الوسرة" وهي عبارة حسانية تفيد معنى التلاحم والتعاضد،

وقد ولد العلامة محمد الأغظف سنة 1262هـ جرية في تخوم مدينة ولاته التاريخية الواقعة في منطقة الحوض الشرقي، فنشأ وترعرع في كنف بيت علم وورع ودين، إذ كان أبوه من أهل العلم الذين ورثوه أبا عن جد، وقد سماه باسم الولي الصالح والعالم الورع محمد الأغظف بن حمى الله بن سالم الداودي وذلك لكونه أحد أجداده من جهة الأم.

وإذا كان بيت أبيه بيت علم وورع، فإن بيت أمه كان كذلك، إذ هي: خدي بنت الطالب محمد بن عبد المالك الداودي، نشأت في وسط علمي وثقافي متميز، وقد تلمذ مترجمنا لأحد أخواله هؤلاء، وهو العلامة القاضي أحمد ولد عبد المالك في ولاته.

الدراسة وطلب العلم:

درس محمد الأغظف القرآن العظيم فحفظه وهو ما يزال حدثا، ثم درس مبادئ العلوم الإسلامية والعربية على علماء قبيلته، وبعد ذلك انتقل إلى مدينة ولاته التي كانت يومها في أوج عطائها العلمي، وقمة ألقها الثقافي، فنهل من معين مكتباتها، وارتوى من عطاء شيوخ محاضرها، فلازم بعضهم حتى أجازه، وفي مقدمة هؤلاء الفقيه القاضي أحمد ولد عبد المالك الداودي حيث درس عليه الفقه، ثم العلامة محمد يحي بن محمد المختار الولاتي الذي أجازه في علوم الحديث والأصول والعربية وغيرها. بيد أنه لم يكتف بذلك فواصل رحلة طلب العلم حتى حل بمدينتي تيشيت وتينبكتو حيث التقى بمشاهير علمائهما، وأخذ عنهم حتى استوعب العلوم المتداولة يومها في المحاضر الموريتانية رواية ودراية، وذلك بفضل صلابة عزيمته، وقوة تصميمه على الظفر بما ندب نفسه لتحصيله، ونذر حياته لحيازته والتعاطي معه، فكان له ما ما أراد حيث صار من أكابر علماء عصره، وأسس محضرة ذاعت شهرتها ودوى صيتها خلال فترة وجيزة من إنشائها.

تأسيس المحضرة والتفرغ للتدريس:

أنشأ محمد الأغظف محضرته بعد عودته إلى حيه " الوسرة " في بداية العقد الأخير من القرن الثالث عشر فأقبل عليها الطلاب من كل حدب وصوب ينهلون من رحيق معارف صاحبها المتعددة. وكان من بين خريجي هذه المحضرة، أعلام أفذاذ أمثال محمد الخضير بن ما يابي الذي لازم الشيخ منذ سنة 1298هجرية حتى أجازه في عدة فنون من المعرفة. ومن هؤلاء كذلك أبناء عمه :محمد الأمين ولد إبراهيم ومحمد المختار ولد اكاي ، وأحمد ولد محمد آبه، إضافة إلى خلق كثير من غير قبيلته منهم العلامة الشيخ سيدي محمد بن إلياس الجماني.

رحلات الحج والإقامة في البلاط المغربي:

   رحل الشيخ محمد الأغظف إلى الديار المقدسة ثلاث مرات فأفاد واستفاد، وفي عودته من الثالثة مر بمراكش فالتقي بالسلطان المغربي الحسن بن محمد، وعند ما أدرك هذا الأخير سعة علم واطلاع الشيخ محمد الأغظف، اعتبره جوهرة نادرة رمته بها الصحراء الشنقيطية، وعليه أن يعض عليها بالنواجذ. فقربه وطلب منه الإقامة معه مكرما معززا فقبل، ثم أسند إليه مهام متعددة ورد ذكرها في ملخص ترجمته التي كتبت في هامش كتاب :العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل للسلطان مولاي عبد الحفيظ، فجاء فيه ما نصه:"هو محمد الأغظف بن أحمد مولود بن خي الجكني المحظري(1262-1337 هجرية) أحد كبار علماء شنقيط والمغرب، ولد في تخوم مدينة ولاته، فحفظ القرآن ودرس العلوم العربية والإسلامية في محاضر ذويه، ثم التحق بحاضرة ولاته المشعة علميا آنذاك، فنهل من معين علمائها وأحاط بعلومها، الأمر الذي مكنه من

تصدر علمائها وعلماء قبيلته الحميرية الوافرة والذائعة الصيت في عموم المغرب وإفريقية والحجاز، فصار قبلة طلاب العلم ومحط أنظار العلماء والقضاة لحل عويصة أو تقييد شاردة. قام بعدة رحلات للحج، كان في كل مرة يقضي سنين للتدريس في مكة والمدينة المنورة، وفي طريق عودته الثالثة من الحج مر بمراكش، فالتقى بالسلطان الحسن بن محمد سنة 1317 هجرية، فأعجب بعلمه فعينه رئيسا للقضاة وأسند إليه مهمة تعليم الأمراء، وخاصة الأمير عبد الحفيظ الذي لازمه ونهل من علمه، وهذا ما دفع الأمير إلى تعيينه مفتيا للديار المغربية عند ما آل إليه الأمر.وفي هذه الفترة التي تقدر بعشرين سنة صار بيت الشيخ محمد الأغظف في مراكش مركزا علميا لطلبة العلم وملاذا للوافدين من علماء شنقيط ومشاهيرها.."

ومن خلال هذا الاستشهاد ندرك بوضوح مستوى الثقة والاعتبار الذي منحه السلطان الحسن للشيخ محمد الأغظف حيث جمع له بين مهام تدريس الخاصة من الأمراء وممارسة رئاسة السلطة القضائية ، وبهذا الجمع بين التدريس وممارسة القضاء في المغرب ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق. فيممه الطلاب والعلماء يمتحون من بحره الزاخر بتنوع المعارف، فانتفع به خلق كثير وتخرج على يديه فطاحلة أفذاذ في مقدمتهم السلطان مولاي عبد الحفيظ الذي أجازه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، ولهذا نرى السلطان يشيد في غير ما موضع وينوه في أكثر من مناسبة في ثنايا تصانيفه المختلفة، بالمناهج الشنقيطية في التدريس والتأليف.ومن خلال إعجابه بالممؤلفات الشنقيطية المختلفة، وتناوله لها بالدرس والتعليق ندرك حجم الجهد الذي بذله محمد الأغظف في سبيل التعريف بالإسهامات الشنقيطية في مختلف التخصصات والمعارف المتداولة في ذلك الوقت.الأمر الذي يسمح بالقول :إن الشيخ محمد الأغظف شكل نقطة تحول في العلاقات الثقافية بين المغاربة والشناقطة، وكان نافذة رد الشناقطة من خلالها الجميل إلى المغاربة، بحيث أصبح هؤلاء الأخيرون يرتادون موائد الشناقطة العلمية لإشباع نهمهم المعرفي، بعد أن كان العكس هو السائد. وهو أمر يتجلى من خلال الحضور القوي لمدرستي سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في الأصول، والمختار بن بونا في النحو ومباحثه، في مدارس ومؤلفات المغاربة. ولعل الجهد العلمي للسلطان عبد الحفيظ أوضح دليل على ذلك.إذ كان شديد الإعجاب بالشناقطة وخاصة أستاذه الشيخ سيدي محمد الأغظف، حيث يقول:"...أشياخي منهم الولي الصالح والقطب الواضح، ذو التآليف العديدة، والفوائد المفيدة،  والقدم الراسخ في معرفة الله عز وجل سيدي محمد الأغظف..." (العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل ص 3، مطبعة أحمد علي نقاش 1326 هجرية).

ولم يقتصر التنويه بالشيخ محمد الأغظف على تلميذه السلطان عبد الحفيظ، بل نوه به علماء كثر وسادة أخيار في مقدمتهم العلامة مولاي على الروداني الأدريسي، وذلك في حاشيته على شرح محمد الأغظف لكتاب: السبك العجيب في نظم معاني حروف مغني اللبيب للسلطان عبد الحفيظ. يقول الإدريسي المذكور"الفقيه العلامة،  البحر الفهامة، المشارك في جميع العلوم المنثور

منها والمنظوم، سيدي محمد الأغظف". وقال عنه العباس بن إبراهيم السملالي في كتابه:الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام:"الشيخ محمد الأغظف ...الفقيه البركة الناسك... شيخ الأخيار والكبراء والعرفاء"(الصفحة 218-219).

ولمحمد الأغظف مؤلفات عديدة كما مر بنا غير أن أكثرها ما يزال مفقودا، ومن أشهر مؤلفاته المتداولة:شرح السبك العجيب في نظم معاني حروف مغني اللبيب،   للسلطان عبد الحفيظ.

الحضور في الشأن السياسي المغربي العام:

     لم يقف شأن الشيخ محمد الأغظف عند علو كعبه في العلم والمعرفة، وكونه قبلة الدارسين .ومدرس الأمراء،  ولا عند منصب قاضي القضاة أو مفتي الديار المغربية. بل كان له نفوذ قوي في تدبير الشأن العام ، وحضور متميز على مستوى الرأي والمشورة ، وثقل ملحوظ في التأثير في مركز القرار، ولعل دعوته إلى خلع السلطان مولاي عبد العزيز وتنصيب أخيه المولى عبد الحفيظ مكانه ملكا على المغرب أوضح برهان على هذا النفوذ الذي زاد وتعزز بعد وصول مولاي عبد الحفيظ إلى الحكم سنة 1325 هجرية. وفي هذه الفترة وصل أبناء مايابى: محمد العاقب ومحمد حبيب الله ومحمد الخضر رفقة ابن عمهم البيضاوي إلى المغرب فا ستقبلهم محمد الأغظف وقدمهم إلى السلطان فقربهم هذا الأخير وأكرم وفادتهم لعلاقتهم النسبية والعلمية بشيخه ومستشاره. وقد مكث محمد الخضر مع شيخه محمد الأغظف ست سنين ثم هاجر إلى المشرق. أما البيضاوي فقد ظل تلميذا له إلى أن تبوأ مكانة خاصة عند السلطان فعينه باشا تاردانت إكراما له وللشيخ محمد الأغظف.

ومن تجليات نفوذ الشيخ محمد الأغظف السياسي معارضته للإنتداب الفرنسي وتحريضه على مقاومته،   ورفض الإعتراف بسلطة فرنسا على المغرب بعد نفي السلطان عبد الحفيظ.مما جعل الحاكم الفرنسي يستشعر الخطر من نفوذه المؤثر في الساحة المغربية،   حيث بادر إلى فرض الإقامة الجبرية عليه في بيته،  وظل على تلك الحال حتى توفي رحمه الله سنة 1337 هجرية ودفن بروضة الإمام السهيلي،  أحد السبعة رجال بالمغرب،  وتعتبر هذه الروضة من أهم المزارات الدينية بالمغرب.وقد رثاه خلق كثير في مقدمته تلميذه وابن عمه الباشا البيضاوي باشا تاردانت.