من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

ننشر في هذه الصفحة في حلقات مسلسلة إن شاء الله تعالى قطوفا من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم: "نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح"، ولا نلتزم في هذه القطوف ترتيب الأحاديث الوارد في الكتاب.

باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقول الله جلّ ذكره )إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيين مِنْ بَعْدِهِ(.

حدَّثنا الْحميديُّ عبدُ اللهِ ينُ الزُّبير، قال حدَّثنَا سُفْيانُ، قَالَ حدَّثًنَا يًحي بنُ سعيدٍ الأَنصاري، قال أخْبًرنِي مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ التَّيْمي أنَّهُ سًمٍعَ عَلْقَمَةَ بنَ وقاص اللَّيثي يقولُ: سمعتُ عمرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه على الْمِنْبَرِ قالَ: سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  يقولُ "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنّيات، وإنَّمَا لكُلِّ امْرئ مَا نَوى: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصيبُها، أَوْ إلى امرأَة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِليْه".

الشــرح

- قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:

(باب كيف كان بدء الوحي) أي هذا باب في بيان كيفية بدء الوحي.

(إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بيان معنى قول الله جل ذكره أي عظم ثناؤه: )إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده( الآية – أي إنا أوحينا إليك يا محمد إيحاء كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وإنما خص نوحًا بالذكر قبل النبيين لأنه أول رسول آذاه قومه فكانوا يحصبونه بالحجارة كما وقع مثله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك شبه الوحي إلى نبينا بالوحي إلى نوح أولا، وقيل إنما خُصَّ بالذكر لأنه أول أولى العزم من الرسل، وعطف عليه النبيين من بعده وخص منهم إبراهيم إلى داود تشريفًا لهم".

(عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه) أنه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول):

(إنما الأعمال بالنيات) أي إنما صحة الأعمال البدنية المأمور بها قولاً كانت أو فعلاً، فرضًا كانت أو نفلاً إذا صدرت من المؤمنين المكلفين منوطة شرعًا بالنيات، وإنما قدَّرنا الصحة دون الكمال لأن الحقيقة هنا متعذرة لوجود الأعمال حسًّا ليس معها نية، والقاعدة الشرعية أن الحقيقة إذا تعذرت وجب حمل اللفظ على أقرب المجازات إليها، والصحة هنا أقرب إلى الحقيقة من الكمال. وقدَّر الحنفية الكمال أي إنما الأعمال كاملة بالنيات، وخلافهم إنما هو في الوسائل وأما المقاصد فلا خلاف في اشتراط النية فيها.

والنيات جمع نية، وهي لغة: القصد، وشرعًا: قصد المكلف إلى أن يوجه إلى جهة حكم الله عز وجل فعلاً، والمراد بالأعمال المأمورات التعبدية فخرجت المنهيات، ولا تشترط في صحة تركها النية فيخرج المكلف من عهدة النهي بتركه ولو لم يشعر به، وخرجت أيضا المأمورات المعقولة المعنى كأداء الديون ورد الودائع ونفقة الزوجات والأقارب فلا تشترط في صحة أدائها النية، تبرأ الذمة منها ولو لم يعلم المدين بأداء دينه عنه وكذا ما بعده، ولذا كانت المأمورات التعبدية كالصلاة والصوم لا تقبل النيابة، والمأمورات المعقولة المعنى تقبلها.

وأما ما فيها الشائبتان من المأمورات فاختلف في وجوب النية فيها كالزكاة والطهارة، فمن غَلَّبَ شائبة المعقولية لم يشترط النية فيها، والحكمة في النية التمييز بين العادات والعبادات، وبين العبادات في أنفسها والتقرب بها إلى الله، وحكمتها في غير العبادات التمييز فقط كما إذا اشترى الوصي شيئا بثمن في الذمة لبعض أيتامه الذين في حجره فإنه لا ينصرف للمشترى له إلا بالنية.

والتعبير ب"إنما" يفيد حصر صحة الأعمال التعبدية على وجود النية مقترنة بها وهذا هو منطوق الحديث، ومفهومه نفى الصحة عن الفعل التعبدي الذي لم تصحبه نية وهو كذلك. وأما المأمورات غير التعبدية فلا تشترط النية في صحتها بل تشترط في كمالها لأن الثواب في الآخرة لا يترتب عليها إلا بنية امتثال أمر الله معها فمن ودى دينه أو أنفق على زوجته غير ناوٍ امتثال أمر الله لم يحصل له ثواب وكذا اجتناب المنهيات لا يترتب عليه ثواب إلا إذا قصد به وجه الله.

فتحصَّل من هذا أن النية قسمان: أحدهما قصد المكلف أن يوجه الفعل المأمور به إلى جهة حكم الله بأن ينوي وجوبه إن كان واجبًا أو سنيته إن كان سنة عين كصلاة العيد والجنازة على أحد القولين، أو ندبه إن كان مطلق فعل، أو كونه رغيبة إن كان رغيبة كالفجر، فهذه النية هي التي تشترط في صحة المأمورات التعبدية.

وثانيهما: امتثال أمر الله بالفعل المأمور به وهذه النية هي التي تشترط في ترتب الثواب على فعل المأمورات المعقولة المعنى، كأداء الديون ونحوه وعلى ترك جميع المنهيات، وأما المأمورات التعبدية فلا تشترط نية الامتثال في ترتب الثواب عليها لأنها تنصرف له بلا نية".

وإنما لم تفتقر إزالة النجاسة إلى نية مع أنها تعبد لأنها من قبيل الترك، نعم ترتب الثواب عليها مفتقر إلى نية الامتثال، نعم بقى من التعبدات نوع لا يفتقر للنية كذكر الله وقراءة القرآن والأذان والنية في المشترطة فيه لأنها عمل قلبي، فهذه الأربعة مخصصة من عموم الحديث، وإنما عبر صلى الله عليه وسلم بالأعمال ولم يعبر بالأفعال ليدخل القول لأنه عمل لا فعل ولينبه على أن المراد بالعمل الفعل المستمر المطلوب من المكلف، ولفظة العمل هو الذي يشعر بالاستمرار بخلاف لفظ الفعل فإنه يشعر بالتجدد، ولذا قال تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ولم يقل "وفعلوا" للتنبيه على أن العمل الصالح لا يمدح العبد به إلا إذا دام عليه وقال )واعملوا صالحا(، ولم يقل "افعلوا" لأن العمل الصالح يطلب من العبد الدوام عليه، ولما أراد الله تعالى من العبد مطلق إيقاع الفعل ولو مرة قال )وافعلوا الخير(، لأن المراد بالخير بذل المال وهو لا يطلب من العبد الدوام عليه.

والباء في قوله صلى الله عليه وسلم  "بالنيات" سببية، وعليه فالنية شرط في صحة الأعمال لا ركن منها وهو الصحيح. وشرط النية الجزم بها وإلا بطل المنوي لأن من توضأ متردداً في نقض وضوئه احتياطًا لم يجزئه".

(قلت): ويترتب على هذا الحديث من الفقه أن نظر الشرع إنما هو إلى المقصود أي مقصود المكلف بالفعل لا إلى الموجود في نفس الأمر، وعليه فمن أصبح مفطرًا في يوم ثلاثين من رمضان متعمدًا منتهكًا لحرمة رمضان ثم ثبت في أثناء النهار أن اليوم يوم العيد تلزمه الكفارة ويتعلق به الإثم لأن الأعمال إنما هي بالنيات ونيته فاسدة".

ويترتب عليه من الفقه أيضاً تقديم المقصد العرفي على المعنى اللغوي إذا عارضه في ألفاظ العقود والأيمان والمعاملات.

 

ويترتب عليه أيضاً لزوم الطلاق بالكناية الخفية ك"اسقني الماء" ونحوه إذا قصد بها الطلاق لأن الأقوال من جملة الأعمال.