من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

بمناسبة شهر رمضان المبارك

 ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.                 

 

النص:

 ويجوز فطر المريض والمسافر في رمضان. وإنشاء السفر فيه. وفطر يوم الخروج عند انفصاله، وفي أثنائه بعد تبييت الصوم، والراجح منعه فيهما، ومن صام أجزأه، وهو أفضل، أو الإفطار، أو أيسرهما، أو مخير، وإن علم قدومه غدوة فليصم.

 الشرح:

(ويجوز فطر المريض والمسافر في رمضان) لقوله تعالى:  { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]، ولقوله تعالى: {ِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:185]، ولحديث  حمزة الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان. وأخرج الثلاثة عن أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم عن أبي سعيد نحوه. وأخرج الشيخان عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة.

(و) يجوز (إنشاء السفر فيه) أي في رمضان بعدما شهد الشهر في الحضر لحديث ابن عباس لإ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، أخرجه الشيخان ومالك في الموطإ. قال في الفتح: والحديث نصّ في جواز إنشاء السفر في رمضان إذ لا خلاف أنّه صلى الله عليه وسلم استهلّ عليه رمضان وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائها. وفي شرح محمد بن عبد الباقي أنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لعشر خلون من رمضان يوم الأربعاء.

(و) يجوز (فطر يوم الخروج) من البلد (عند انفصاله) عن البلد بعد تبييت الصوم في الحضر لحديث جعفر عن أبي بصرة الغفاري قال: لما جاوز أبو بصرة البيوت دعا بالسفرة أي ليأكل منها، قال جعفر فقلت له: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال جعفر: فأكل، أخرجه أبو داود. وحديث أنس أنه كان إذا أراد أن يسافر يفطر في الحضر قبل أن يركب، أخرجه البيهقي وابن أبي شيبه. وحديث أبي الدرداء قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة، أخرجه الشيخان.

و بجواز فطر يوم الخروج قال الحسن والشافعي في رواية وأحمد وابن حبيب والمزني وإسحاق بن راهويه.

(و) يجوز الفطر (في أثنائه) أي السفر (بعد تبييت) نية (الصوم) في السفر لحديث ابن عباس المتقدم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح صائما فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان. وحديث جابر عند مسلم والترمذي نحوه وزاد فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون إلى ما فعلت. فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء فوضعه على راحلته ليراه الناس فشرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب. فقيل له بعد ذلك أنّ بعض الناس قد صام فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك العصاة. وفي الصحيحين عن طاووس: ثم دعا بماء فرفعه إلى يده، وفي أبي داوود: فرفعه إلى فيه فأفطر. وللبخاري عن عكرمة عن ابن عباس: بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته.

وفي الموطإ في آخر هذا الحديث: وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المازري: واحتج بهذا الحديث مطرف ومن وافقه من المحدثين على أنّ من بيّت الصوم في رمضان في السفر فله أن يفطر، وهو أحد قولي الشافعي، ومنعه الجمهور قالوا: لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيّته لزمه، وحملوا الحديث على أنّه صلى الله عليه وسلم أفطر للتقوّي على العدوّ للمشقة الحاصلة له ولهم. قاله ابن عبد الباقي. وقال ابن حجر في فتح الباري: واستدلّ بالحديث على أنّ للمسافر أن يفطر في السفر في أثناء النهار ولو نوى الصوم من الليل وأصبح صائما.

(والراجح منعه) أي الفطر (فيهما) أي المسألتين: مسألة الفطر في يوم الخروج، ومسألة الفطر في النهار في أثناء السفر بعد تبييت الصوم فيهما، وهو مذهب الجمهور. وحجتهم قوله تعالى: {أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}[البقرة:187]  فإنه تعالى أمر بإتمام الصوم الذي شرع فيه والأمر للوجوب، وقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}[محمد:33]  فإنه تعالى نهى في الآية عن إبطال العمل الصالح بعد الشروع فيه والنهي للتحريم.

(ومن صام) رمضان في السفر (أجزأه) صومه عن رمضان لحديث ابن عباس لإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، أخرجه مالك في الموطإ والشيخان والترمذي. وحديث أبي سعيد قال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صيام فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحو عدوّكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة، أخرجه مسلم وابن عبد البرّ. وحديث أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

ففي هذه الأحاديث أنّ من صام رمضان في السفر أجزأه عن رمضان وهو مذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة وخالف في ذلك جماعة: عمر وابنه وأبو هريرة وعبد الرحمن بن عوف من الصحابة، والنخعي والزهري وأهل الظاهر من التابعين وتابعيهم. وحجتهم قوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]، فقالوا: جعل الله فرض المريض والمسافر الصوم في عدة أيام أخر أي في غير أيام رمضان، فإذا صام قبل الزمن الموقت لصومه لم يجزئه، واحتجوا بحديث الشيخين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى في سفر زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر، ولفظ مسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، وزاد بعض الرواة: عليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم. قالوا: وما لم يكن من البر فهو من الإثم. وفي الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يصوم في السفر، قال محمد بن عبد الباقي لأنه كان يرى أن الصوم في السفر لا يجزي.

(وهو) أي صوم رمضان في السفر (أفضل) من الإفطار لقوله تعالى: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}[البقرة:184]، ولما ثبت من صومه صلى الله عليه وسلم في السفر كما في حديث ابن أبي أوفى وأبي الدرداء وحديث ابن عباس عند الشيخين كما قدمنا وهو مذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبو حتيفة.

(أو الإفطار) في السفر أفضل لحديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم فقال: ليس من البر الصوم في السفر، أخرجه الشيخان. ولحديث أنس قال: كنا مع النبي  صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال  صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر، أخرجه مسلم. وأخرج أيضا عن حمزة السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح أي في الفطر فقال صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، قال عياض: احتج به من قال الفطر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم فيه فحسن، وقال في الصوم فلا جناح، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق.

(أو) الأفضل (أيسرها) عليه لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] فمن كان الصوم أيسر عليه فهو أفضل ومن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل له وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر.

(أو) هو (مخير) فإن شاء صام وإن شاء أفطر لحديث حمزة السلمي قال: يا رسول الله إني رجل أصوم أفأصوم في السفر؟ فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، أخرجه مالك في الموطأ والشيخان. وأخرج أبو داود والحاكم عن حمزة أنه قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان في السفر وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا علي فقال  صلى الله عليه وسلم: إن شئت ذلك فافعل.

(وإن علم) أي المسافر (قدومه) لبلده (غدوة) أي أول النهار (فليصم) ندبا عند مالك لما أخرجه في الموطأ عن عمر بن الخطاب ؛: أنه إذا كان في سفر في رمضان فعلم أنه داخل المدينة من أول يومه دخل وهو صائم. قال مالك ومن كان في سفر فعلم أنه داخل على أهله من أول يومه وطلع له الفجر قبل أن يدخل دخل وهو صائم، أي استحبابا كما قال الإمام نفسه في مختصر ابن عبد الحكم. وقال أبو حنيفة يجب عليه إمساك بقية يومه إذا دخل على أهله في رمضان نهارا. واحتج له أصحابه باتفاقهم على أنّ من أصبح في أول يوم رمضان مفطرا ثم صح أنه من رمضان أنه يمسك بقية يومه وليس بحجة. والفرق بينهما أن المسافر ونحوه له الفطر مع العلم برمضان للعذر، والجاهل بدخول الشهر ليس جهله بدافع عنه الواجب إذا علمه قاله أبو عمر.