من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

نواصل هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ  في حلقات مسلسلة، نشر قطوف من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم: "نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح"، ونلون بالأحمر الإضافات التي ينسبها الفقيه لنفسه بقوله: قلتُ.
نص الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ  الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ ". قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا .
الشرح:
(عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟): أي على أي صفة  يأتيك  الوحي، أو على أي صفة يأتيك حامل الوحي.
ـ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): مجيبا له
ـ (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ):  يعني أن الملك الموكل على الوحي يأتيه أحيانا أي في بعض الأوقات حال كون صوته مثل صلصلة ـ أي صوت ـ الجرس أي الجلجل الذي يعلق في أعناق الدواب، وقيل إن الصلصلة صوت حفيف أجنحة الملك لا صوت الملك نفسه، والحكمة في تقديم الصلصلة على إلقاء الوحي أن يقرع سمعه أولا فيقبل إلى الوحي بكليته.
ـ (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ): يعني صلى الله عليه وسلم أن هذا النوع من إلقاء الوحي هو أشد أنواع إلقائه إليه أي هو أشقه، وفائدة التشديد عليه رفع الدرجات له بالصبر عليه.
ـ (فَيُفْصَمُ عَنِّي): أي فيقطع عني الملك الوحي.
ـ (و): الحال أني (قَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ): أي حفظت ما ألقى إلي من الوحي، وإنما شبه صلى الله عليه وسلم صوت ملك الوحي بصوت الجرس مع أن صوت الجرس مذموم لأجل التقريب له إلى أفهام السامعين لأن صوت الجرس هو المألوف عندهم. ووجه الشبه بينهما قوة الصوت، ولأن المقصود بيان أن صوت الملك حسن يقرع السمع ولا يفهم منه شيء توطئة لإلقاء الوحي، وصوت الجرس لا يفهم منه شيء لأنه تصويت فقط. وإنما كان هذا النوع من الوحي هو أشد أنواع الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ينسلخ فيه من البشرية إلى الأوصاف الملكية لأن الملك يأتيه على صورته الملكية. وخطاب البشري مع الملك لا يمكن إلا بانسلاخ االبشري عن بشريته.
ـ (وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا): أي وفي بعض الأوقات يتمثل الملك له صلى الله عليه وسلم حال كونه رجلا أي على صورة رجل.
ـ (فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول): أي فيكلمه بالوحي أي يلقيه إليه فيعي ما يقول، أي يحفظه منه حال المكالمة، وإنما عبر في جانب النوع الأول من الوحي بالماضي، وعبر عن هذا النوع بالمضارع لأن الوعي في الأول حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده، وفي الثاني في حالة المكالمة ولا يتصور قبلها، وليس المراد حصر الوحي على هذين النوعين، بل المراد بيان أن الغالب مجيئه عليهما.
قلتُ: وفي الحديث دليل على جواز سؤال العامي للعالم عن كيفية أخذه العلم، وعن ابتداء أخذه. وفيه دليل على أن الملائكة تتشكل على صورة الآدمي، وفيه دليل على أن الأدب في أخذ العلم بالرواية أن يلقي العالم إلى المتعلم العلم ابتداء والمتعلم منصت حتى يحفظ ما يلقى إليه، يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: فيكلمني فأعي ما يقول. اهــ
ـ (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ): يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
 ـ (يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ): أي ينزل الملك به من عند الله
ـ (فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ): أي اليوم الشاتي البارد
ـ ( فَيَفْصِمُ عَنْهُ):  بكسر الصاد وفتح الياء أي فينقطع عنه الوحي.
 ـ (وَ): الحال
ـ (إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ): تعني أن جبينيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفصدان أي يسيلان عرقا من شدة نزول الوحي عليه لأنه ينسلخ عن البشرية حينئذ.
قال القسطلاني: "وإنما عبرت بالمفرد عن التثنية لأن المفرد يغني عن التثنية في كل اثنين مزدوجين كالأذنين والعينين، فنقول عين زيد حسنة، وأنت تعني عينيه، والجبين ما فوق الصدغ.
والعرق:  رشح الجلد.
قلت: وفي الحديث دليل على أن انسلاخ النبي صلى الله عليه وسلم من البشرية أمر معنوي باطني أي في قلبه صلى الله عليه وسلم إذ لم يذكر في الحديث أن صورته الشريفة تنتقل عن صورة البشر، وفيه دليل أن معاناة الأمور المعنوية القلبية تورث الجسد الظاهر تعبا، يؤخذ ذلك من قول عائشة أن جبينه ليتفصد عرقا، أي يسيل منه العرق الكثير المتتابع كما يسيل الدم من الفصد، وفيه دليل على أن العقل متصل بالدماغ لأن العرق الناشئ من الانسلاخ عن البشرية تصبب من الرأس الذي هو مقر الدماغ. اهــ