طباعة
الزيارات: 1680

 

(آبْنابَ كتُّ عباس) : عراقة الزمان ، وبركة المكان                                                                  بقلم/ عبد الله المرواني

في المدينة الخالدة معالم كثيرة كان يرتادها أهل العلم والفضل في المدينة، منها معْلم وسط المدينة الشهير بـ (آبناب كَتُّ عباس). في الأصل، كان (كتُّ عباس) أحد المنتديات العلمية التي يجتمع فيها علماء المدينة يتلون فيها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ليالي الشتاء.

علاقة أي ولاتيّ بـ (ابْنابَ كَتُّ عباس) وغيرها من ربوع المدينة الخالدة، تشابه إلى حد كبير علاقة محمد ولد آدب (1892-1958م) مع ربوع منطقة "تكانت" ، مثل موضع (أشَرِيمْ) ونواحيه ، ومثل مواضع (اشْوِ) و(اڨليب إحياك ) و (انْتَسْكَ)، و (أرْجِ)، و (إيدُوجَنْ ) و(الرشيد ) ، وغيرها ...
وفي ذلك يقول (ولد آدب) معددا أطلال الأحبة ، باكيا على عهد الصبا والشباب :
اسبوع ايظلُّ فيه اجموعْ ** الغيدْ اعلَ راص احياكْ
مَجَّلات حِياك اسبوعْ ** مزالُ فالناس حِياكْ
زَهَّدْنِ فـوْعيد امْنَ ابْعيدْ ** (أَرْجِ ) و (ايْدوجَنْ) و(الرشيدْ)
ياسر عادْ ايزهّدْ فَــوْعيدْ ** ذ الوكر اوْ ذاك الوكر اوذاكْ
...
وازْهَدتّْ افلبتيت اوْ غزيتْ ** الِّ ڨاع ازهدتْ افلبتيتْ
مالِ لَعْدْ ابلحباب اتليتْ ** وَزْهدت افلحباب امْنَ وْرَاك
وَامْنَ اهلك ما لَتْهَيْتْ، اوريتْ ** من تقلاب الدهر اوْ لفلاك
ياسر وسّانِ ما شكّيتْ ** منّ اوْراك انِّ لاه ننساك...

إضافة إلى عراقتها ورمزها التاريخي والديني، وموقعها في وجدان كل ولاتي، كانت (آبْنابَ كتُّ عباس) منتدًى يجمع شرفاء المدينة ووجهاءها ، وذوي الفضل فيها، لتبادل أطراف الحديث والتشاور في شأن المدينة الخالدة... 
منهم الشريف الفاضل الساس ولد اڨيڨ ، السياسي المحنك، الجُذيل المحكك، والديبلوماسي اللبق. الجواد المفضال الذي سارت بذكره الركبان ... كان بيته المشهور بـ(دار اهل بادي) مأوى للضعفاء والمحتاجين، ومزارا للضيوف والمعتافين... فكم من ذي نسب وحسب ، ومعروف ومجهول، نزل فيه وتنعّم بطيب مأكله ومشربه... كان (الساس) رجلا أمة، يقوم بمفرده بما لا يقوم به إلا عشرات الرجال، يستشهد الزائر لبيته، بقول الشاعر القديم :
لمّا سمعتُ به سمعت بواحد ** ورأيـته فـإذا هـو الثـــقــلانِ
ووجدت كل الصيد في جوف الفرا ** ولقيتُ كل الناس في إنسانِ
ترجّلَ الساس ولد اڨيڨ عن صهوة جواده مطلع التسعينات.... وترك المدينة التاريخية يتيمة عزلاء.
قال يرثيه أحد أبناء "الدشره" :
جادت عليك سحائب الرضوانِ *** يا موئل الضعفاء والضيفان
مـجـدٌ تليدٌ ضارب أطنابه **** من دوحة نـبـوية الأغـصان
لَكأنما الدنيا بجودك أقسمت *** أن لا جواد يعيش طول زمانِ

ومن مرتادي (ابناب كت عباس) الشريف بن الشريف، الولي بن الولي مولاي اعل ولد ابّ ولد مولاي اشريف ، ذي النسب الصريح والحسب الفصيح. كان – رحمه الله - ملاذا لأهل البادية يأوون لدكانه ويطعمهم ما شاء الله أن يطعمهم. رؤوفا بالفقراء والمساكين، ذا خلق دمث ووجه بشوش. توفي رحمه الله في مزرعة له بـ(كرَيْ) على بعد أميال من المدينة التاريخية.

ومنهم ابَّ ولد اڨيڨ ، (شيخ الدشرَ) ، عم الساس ولد اڨيڨ... له فضائل لا تُحصى ومناقب لا تُستقصى... ورث المشيخة عن أبيه و جده... يُشتهر باجتهاده في قِـرى الضيف، وإيواء الوافدين إلى ولاته من أهل البوادي المجاورة. كان يستقبلهم في داره ويقوم في شؤونهم ، ويساعدهم في إجراءاتهم الإدارية لدى حاكم المقاطعة.
له ابتسامة لا تفارق محياه، يتذكرها كل من عرف الرجل...
ارتحل الشريف ابَّ ولد اڨيڨ في ربيع 2014 ، عن عمر طالَ في طاعة الله وإكرام الضيف ونصرة المظلوم. قلتُ في شأنه من مرثية رثيته بها آنذاك :

بكى المجد ملْءَ العينِ إذْ مات صاحبُهْ ** وأظلم وجه الكونِ واسْوَدَّ جانـبُهْ
لقد فـقـدتْ والات (شيخاً) مـبـجَّـلاً *** كريم السـجايا، ناصعات مـناقـبُـهْ
فما إنْ تـرى إلا خدودا خـواضلا *** سواكبَ دمعٍ لا تـغـيـض سـواربُـهْ
فتىً خدْنُـه العَـلياءُ مـذْ هو يـافـع *** يـناسـبـها في روحـها وتــنـاسـبُـــهْ
عهدناك - يابن (اڨيڨِ)- غوثا لأهلنا ** إذا ما زمان الخصب جُذّتْ غواربُهْ
تـفــرّجُ أحـزانَ اليـتـيم تَـعــطُّـفـاً : *** تـمازحـه طـورا وطـورا تـلاعـبُـهْ
وتـطعم مسكينا وتُـكسب مُـعـدِمـا *** وتـنـصر مـغـلــوبا إذا جارَ غالِـبُـهْ
أولئك أهل (اڨيڨ) من شرُفتْ بهم *** (ولات)، وهم قلب الزمان وقالبه
إلى آخر القصيدة...

وممن كان يمرّ على (ابناب كت عباس) الشيخ الفاضل (انَّ ولد محمد الشيخ) الداوودي ، المقرئ المجود للقرآن، سليل محمد الأمين و لد باريك العالم العابد. 
عُرف ( ان ّ ولد محمد الشيخ) – رحمه الله - بحدبه على الضعفاء ، ومسحه على رؤوس اليتامي ، ونفقته في السر والعلن على المساكين والمعوزين... كان له صوت عجيب عند الأذان ، تنتحب له الصدور ، وتدمع له العيون، وتخشع له القلوب...

ومنهم الشريف المنيف (لعنايَ ولد لحبيب) التقيّ الورع، المحافظ على صلاة الجماعة، لا تفوته صلاة الفجر. له أذان عند مطلع الفجر عزَّ نظيره عذوبة وصفاء وجودة . لا زال ذالكم الأذان يرنّ في أذن كل ولاتيّ سكن المدينة في تلك الآونة الذهبية من التسعينات...
يتمتع (لعنايَ) بحس شاعري مرهف، وذوق أدبي رفيع... أذكر أني تلوت عليه ضحوة من صيف 2014 أبياتا من مرثيتي للشريف ابَّ ولد اڨيڨ، فطرب لها وأثرت فيه تأثيرا كبيرا ... 
لا زال (لعنايَ) ينير دجى المدينة التاريخية بخطاه إلى المسجد العتيق، أفسح الله في عمره ...

ومن مرتادي (ابناب كت عباس) فضلاء آخرون يصعب استقصاؤهم في هذه الخاطرة.
ومنهم أيضا سابقون آخرون.... لم أشهد عصرهم، وإنما سمعت بهم... لهم مآثر عظيمة تضيق عن ذكرها صحائف " الفيسبوك" ومواقع شبكة العنكبوت...

بعد الرعيل الفاضل من أولئكم الشرفاء والفضلاء، ظلت (ابناب كتُّ عباس) منتدى لكل أجيال ولاته المتعاقبة... كنا عندما يشتد الصقيع ، ويضرب الزمهرير أطنابه على (زيرة امّاعلِ) نلوذ بـ (ابناب كت عباس) فنجلس عليها نتسمر ليلاً . ننظر في الماشي والجائي ...

في السنوات الأخيرة، أمست (ابنابَ كت عباس) أشبه ما تكون بالأطلال، تنفخ فيها هوج الرياح الروامس من كل حدب وصوب. فقلت في ذلك :

أيا(كتُّ عباسٍ) عليك تحيةٌ ** بربّك قل لي: أين تلك المجالسُ ؟
مجالس للأعيان صبحاً، وفي المسا ** مواعد للفتيان والبرد قارسُ
جررنا بها ذيل الطفولة والهوى ** وطاب لنا فيها زمانٌ مـؤانـس
فوا أسفا أمستْ خلاءً من اَهلها ** تعاورها هوجُ الرياح الروامسُ
لقد صدقتْ فيها مقولة شاعر ** قديم أهاجته الطلول الطوامس :
"كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا" ** سمير ولم يأنسْ بمكة آنسُ

عبد الله