من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

 

من الاعلام العلماء: الشريف مولاى سعيد بن باب عينين

بقلم: عال مرواني

هوالفقيه الشريف مولاي اسعيد، شقييق الشريف سدات بن باب عينين بن علال بن مولاي المامون بن سيدى محمد المهدى بن مولاى اعلى بن مولاى محمد بن سيدى حم بن الحاج الحسن

ولد بالنعمة حوالي 1308ه وبعد ان حفظ القرآن الكريم التحق بمحظرة العلامة باب حسن بن مولاي عبدالله قاضى المدينة حيث درس النحو واللغة والأدب.

سافر الى بلاد السودان لنشر الإسلام بهذه البقاع الافريقيةالنائية.
قام برحلة الى الحجاز لأداء فريضة الحج دامت عدة سنوات مر خلالها بمراكز إسلامية بالنيجر واتشاد والكمرون.
زار مدينةأم درمان وقرية الأبيض بالسودان وهناك ألف كتابه المسمى: تمهيدالسنن في المنسوخ من السنن.

عاد الى مدينة النعمة واستقر بها نهائيا حيث أسس محظرة كبرى كان يدرس بها العلوم الشرعية من فقه وتوحيد وأصول وقواعد.

وكان له بستان نخيل يسقيه بيده عملا بالحديث الشريف الذى رواه البخارى ، في الأدب باب رحمة الناس والبهائم : ولفظه (مامن مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا فيأكل منه طيرا و إنسان او بهيمة الا كان له به صدقه) رواه مسلم، في كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع.

كان مولاي سعيد معروفا بالتقى والورع ونقاء السريرة والزهد في الدنيا.
له مؤلفا ت بخزانة اهل باب عينين هي:

-ضوء العينين في شرح ورقات إمام الحرمين
-تمهيدالسنن في المنسوخ من السنن
-مختصر الرسوخ في الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم
-برهان العباب في الرد على محمد الخضربن ماياب.
انتقل إلى رحمة الله في 29رمضان1371ه
ودفن بجوار والده باب عينين بن علال في مدينة النعمة رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤليك رفيقا ونفعنا الله ببركتهم ءامين.

هو اب بن شيخنا محمدى بن سيدى عثمان بن محمد عبد الله بن سيدى عثمان بن سيدى عبد الرحمان التاقاطى اجداده كلهم علماء وصل جده الا على سيدى عبد الرحمان التاقاطى ولاته منتصف الثامن عشر بغرض العلم وتجنس بها وحصل له فيها من القبول ما لا يوصف،وترتبط به حاضرا اصول اعرق بيوتات الشرف والعلم بولاته.

امه السيدة المنفقة عيشة بنت الحاج الحسن الزيدى،التى يرجع نسب ابيها الى العالم الحجة الذى انتهت اليه رئاسة الا قراء فى بلاد التكرور،الحاج الحسن بن الاغبدى الزيدى،-من اولاد زيد بن داود وهو ثالث اخوة علوش وجعفر ابناء داود-

ولد اب بن شيخنا محمدى فى ولاته سنة1324ه تربى ونشا فى كنف والده الشيخ امحمدى صاحب المحظرة العريقة ت:1337ه-محظرة اهل سيدى عثمان التى كان يشرف بنفسه على التدريس بها والا نفاق عليها من ماله ،وكان يتحسر ويتاسف عندما ينقص العدد عن المائه -

وقد رثى حسني بن محمد يحيى الولاتي رحمهما الله شيخنا محمدي بن سيدي عثمان رحمه الله  بالأبيات التالية:

مات الندى وتحكم الا فلاس......فى ارضنا فرثى لذاك الناس

وتهدمت والات عند وفاة من......بوفاته تتضاعف الاتعاس

واصيب كل المسلمين بموته........حتى لعمركم اصيبت فاس

واصيب طلاب العلوم لفقده.........شيخا لمذهب مالك دراس

عكف على تعلم العلوم بذكاء حاد فتضلع بالعلوم السائدة فى البلاد حتى بلغ المرتبه العليا وكان يشار اليه بالبنان-مايرد لوح-وعرف عنه كل ما دخل عليه طالب بمتن يدرسه فيقول له الكلمة التى عرف بها: مشى.

من اساتذته المعروفين: محمد عبد الله بن الخرشى العلوى خليفة والده بعد وفاته بالمحظرة،اخوه الداه بن شيخنا محمدى،محمد المختار وحسنى ابناء الشيخ محمديحيى الولاتى،الشيخ سيدى محمد بن عابدين الكنتى الولاتى.

عرف رحمه الله بالورع الشديد، والتورع عن الظهور والا بتعاد عن الجدل، بلغ الغا ية القصوى فى حفظ النصوص والمتون عن ظهر قلب،وقلما يلجا فى التقسير الى الشروح المكتوبه،مع قدرة فائقة فى النحو والبلاغة والا صول والبيان،اماعلوم الحديث والفقه فحدث ولا حرج،ومن عاداته رحمه الله،اذا مرض لا يتكلم الا بالفصحى،والجالس بجانبه فى هذه الظروف يستفيد كثيرا من مروياته الفقهيه والا دبيه.

تولى رحمه الله الا شراف على المحظرة تدريسا وانفاقا بعد وفاة اخيه الا كبر الداه بن شيخنا محمدى 1354ه

رحم الله شيخنا وخالنا اب بن شيخنا محمدى فقد قرات عليه رحمه الله جل المتون المتداوله فى المحظرة الولاتيه،وظل رغم كبر سنه مباشرا للتدريس والا نفاق، وافاه الاجل المحتوم رحمه الله،السبت 20ذى القعدة 1409ه الموافق 24يونيو 1989م.

اثر وفاة هذا العلم النادر، انهالت على اسرته التعازى بهذه المناسبة الاليمه ومن هذه المرثيات قصيدة والدنا محمد عبد الله بن محمد المختار رحمه القاطن بتنبدغة:

اعزى جميع المسلمين بعالم.......ومنفق مال للتلاميذ دائم

كوالده معه اخوه وامه............بانفاقهم لم يبرحوا بتلازم

عليهم من الرحمان سابغ رحمة.....وابناء داموا في فعال المكارم.

وفى نفس السياق،جادت قريحة الاستاذ سدات بن بابيه المحجوبى بالمرثيه التاليه من الشعر الحسانى:

ال مسلم لازم صبر......والصبر اجر مكتوب ان

و اب معروف ان قبر...روض من رياض الجنه

رحمه الله واحسن اليه ، ويقيننا ان قبره بفضل الله ورحمته روضة من رياض الجنه،ربنا بحق ايمانه بك وورعه وما حمل صدره من ءايات اليقين،والبركة والتقوى اشملنا بعفوك ورحمتك ووالدينا وجميع المسلمين ءامين

بقلم:  علي مرواني

يارب عبدك عال اليوم قد نزلا

ببابك، اغفرله وأكرم النزلا

وأولِهِ رحمة فيحاء واسعة

سحَّاومغفرة تمحو بها الزللا

واخلفه في عقب لله محتسب

وارزقهم الصبر والسلوى لما نزلا

فتى على الناس قد فاضت فضائله

فكم أعان وكم واسى وكم وصلا

وكم مشى في ظلام الليل منفردا

إلى المساجد يجفو النوم و الكسلا

عف اللسان طليق الوجه منبسط

لمن يلاقيه طفلا كان أو رجلا

فالله يسكنه فردوس جنته

مستبشرا ضاحكا مستأنسا جذلا

واغفر لشاهدنا واغفر لغائبنا

وحينا والذي قد مات وارتحلا

من والدينا وأهلينا بأجمعهم

والمسلمين ومن أوفى ومن دخلا

محمد الفقيه

وقد علق الأستاذ حسني الفقيه على هذه القصيدة:

أنشأت تقريظا لهذا الرثاء الصادق الجميل ما يلي:

لا سد فوك شقيقي فالمصاب خلا @ من بعده الكون بل خلناه قد رحلا@

وعال لم يرتحل فذي ملامحه @ في كل وجه من الحق الذي امتثلا@

حق المهيمن يرعاه ويحفظه@ فيه وفي الخلق اني حل وارتحلا@

وقد أضاف الأستاذ باي سيدي محمد آل عمر دوكري الأبيات التالية للقصيدة

يا رب عفوك للعال الذي ارتحلا@ عن العيون ولم تبصر له مثلا

يارب رحماك للعال الذي ارتبطت@ به الأقارب من قاص ومن نزلا

قد كان في الأهل مثل الحرف يجمعهم@ والحرف يجمع من اخوانه الجملا

واغفر إلهي لعال خير مغفرة@ تمحي بها من ذنوب العمر والزللا

لا تبك (لاله) أباك اليوم في نفر@ ذوي التقى لجوار المصطفى انتقلا

وصل ربي على المختار سيدنا@ كتبته بدموع الحب مرتجلا

بين كثبان (اترابْ مامَ)، و تلاع (البطحَ الشرڨية) ، مرورا بـ(صَنْڨَتْ ادّو) إلى لڨليڨ ،فـ(ظهرَت لمسيد) فـ(رحبة بارتيل)، إلى (دار طالبنَ )، كان للشيخ نزهات "رياضية" يعتادها خلال الأسبوع... وكان يصطحب معه في كل مرة واحدا من التلاميذ ليعرض عليه أحزابا من القرآن ...

من حسن طالعي أنْ كنت من ذلك الجيل الأخير الذي كان يرافق (طالبن) في نزهاته الأسبوعية بربوع "ولاته"، ليتلو على أثره القرآن...
كان الشيخ في عنفوان قوته ، رغم أنه أربى على الستين ، لكنه كان رياضيا شديد الإعتناء بنفسه وبلياقته البدنية...

حين تتلو عليه خمسك اليومي ، وهو يمشي الخيزلَى بين تلك الربوع، يجعلك تشعر بإعياء شديد ؛ فتخرج الآيات منك منقطعة النفَس ، الواحدة تلو الآخرى، من شدة اللهاث... فلا تسترد أنفاسك، حتى يفاجئك بكلمته المعتادة ذات النبرة المتحدية : (مشِّ)... ولسان حاله يقول (إن كنتُ شارفتُ على الشيخوخة فمازلت أُغالب الفتيان في سرعة السير)

كان (طالبنَ) شديد المعرفة بالكتاب، وبمواضع المتشابه منه ... ولم تكن (إيمرازَنْ القرآن) تعرف سبيلا إلى ذاكرته... لا تتجاوز كلمة ، ولا شكلة إلا ونبهك عليها في لمح البصر....
ولا زالت ترنّ في أذني "تصحيحة" لقنني إياها ،عند قوله تعالى (إن نشأْ ننزلْ عليهم من السماءِ آية فظلت اَعناقهم لها خاضعين) ؛ إذْ قرأت لفظة (آيَةً ) بالهمزة الخالصة، فقال لي بهدوء وكأنه يريد أن يحفر الكلمة في ذاكرة الفتى الصغير : (مِنَ السّماءِ يَايَةً)... أعادها مرتين مُبْدلا – رحمه الله - الهمزة ياء خالصة؛ تطبيقا لقول (بن بري في نظمه لمقرأ نافع ) ، في باب أحكام الهمزتين :

ثم إذا اختلفتا وانفتحتْ ** أولاهما فإن الاُخرى سُهلتْ
كاليا وكالواو، ومهما وقعتْ ** مفتوحة واوا وياء أُبدلتْ
وبما أن الهمزة في لفظة (ءاية) وقعت مفتوحة، وقبلها كلمة (من السماءِ) التي آخرها همزة مكسورة ، وجب – وفقا لقراءة نافع– إبدالها ياء... فتُقرأ (من السماءِ يَـاية).
ومنذ ذلك اليوم، ما إنْ أمر عليها حتى تتراقص في ذهني تلك اللحظات التربوية المباركة مع شيخي (طالبنَ)...

وذات ضحوة ، كنت أهرول وراءه على "ظهرة لمسيد" أعرض عليه حزب (ألف لام ميم صاد)، و عندما وصلت إلى قوله تعالى (الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم)، هممت أن أعكسها (لعبا ولهوا) ، فبادرني منتهرا : (لهوا ولعبا)،... وكأنه كان ينتظر أن أعكس الكلمتين في الآية الكريمة... وما ذاك إلا من شدة خبرته في مواضع القرآن المتشابهة التي يقع فيها الطلاب.

كان لـ(طالبن) حنوّ ورقة بل وطرافة أحيانا مع صغار التلاميذ، وأذكر أن أحد الفتيان كان يلهو بحفْرِ غار في التراب، في حين أن الآخرين كانوا يقرأون ألواحهم بصوت عال. ظل الصغير يحفر ويحفر . لمحه الشيخ، فتغافل عنه... بعد هنيهة، جاءه الصغير وقال له (ماشِّ نشرب)، فأجابه : (اللا حاني حاسيك ايْجم)... كانت تلك العبارة إحدى (ديمينات) الشيخ – رحمه الله- ....

لم يكن طالبنَ ، مشتغلا بتعليم القرآن الكريم فقط، بل كان يشغل إمامة جامع المدينة... وحُقَّ بها وأهلها... ألم يقل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؟ ولايزال صوته الندي وهو يتلو خطبة الجمعة ، يتردد الآن بين أساطين المسجد العتيق. 
وعندما يدلهم الأفق ، وتقبع المدينة التاريخية في هزيع الليل، يكسر الصمتَ صوتُ الشيخ الشجي، وتلك الترنيمات العذبة المرتلة لآي القرآن ، فتكاد تنفطر أفئدة السامعين من الجيران... وتشع أنوار القرآن في أزقة و بيوت المدينة التاريخية...

تشعر بعبقرية الرجل وسيطرته على المقرإ حين تجلس إليه وهو يفسر أبياتا من نظم (بن بري على مقرأ نافع ) :
القول في المفتوح والممالِ ** وشرح ما فيه من الأقوالِ
أمال ورشٌ من ذوات الياء ** ذا الراء في الأفعال والأسماء 
نحو رأى بشرى وتترا واشترى ** ويتوارى والنصارى والقرى
أو عند قول الناظم في باب " فرْش الحروف" :
قَرَأَ وهْو وهْي بالإسكانِ ** قالونُ حيث جاء في القرآن 
ومثل ذاك فهْو، فهْي، لهْوا ** ولهْي أيضا مثله ثم هْو ا
...
أو كاستماعك إليه وهو يترنم بأبيات من منظومة الطالب عبد الله الجكني في رسم القرآن :
الحمد لله الذي رسْمَ الكتابْ ** وضبْطَه علّمنا بلا عتابْ
ثم الصلاة والسلام الأسمى ** حسَبَ ما في اللوح حرفا واسْما ...
لِلنُّونِ الاخْرَى افْتَحْ وَرَا وَيْ مَدَّ لَمْ ... تُبْدَأْ بِتِي في الجمع وَاحْذِفَنْهُ لَمْ

كان رحمه الله رقيقا ، له صوت عذب يرهقه حزن خفي... يثير دموع السامعين في كل خطبة ، سواء في خطبة الجمعة ، أو العيدين أو خطبة الإستسقاء. ومن العجائب ، أنه في خطبة جمعته الأخيرة نَحِب نحيبا شديدا لم نعهده من قبل. وكأنّ الشيخ شعر أثناء إلقائه للخطبة أنه مغادر يوم غد، وأن تلك ستكون آخر خطبة له في الدنيا ...

كانت ضحوة ذلك السبت ضحوة عادية ، وكنا نعرض عليه ألواحنا ، الواحد بعد الآخر... كانت الساعة في حدود العاشرة أو الحادية عشر صباحا... لم يكن (طالبن ) يشكو من أي مرض.
انصرف إلى (الدار الورانية) وهي دار صغيرة ملتصقة بالدار التي يقرأ فيها التلاميذ... حفّفَ شيخنا – على غير عادته - لحيته البيضاء... ثم عاد وعلى وجهه السرور، وكأنه يستعد للقاء ضيف عزيز عليه ... رأيته يقوم بترتيب بعض الكتب في البيت الذي يجلس فيه عادة، ويضع آلة حلاقته في مكانها المعهود . ثم ذهب واضطجع على (مَطْلَ ) في أقصى البيت...
بعد لحظات، شعر أحد الحاضرين - وأظنه خادمه "مولود" رحمه الله- أن (طالبنَ) ليس على ما يرام، فدعى الطبيب... دخلت (كُنادِ) ،الممرضة الوحيدة في المدينة، وعلقت له ما نسميه آنذاك (دڨة القوة)...

كان لـ(طالبن) ميعاد آخر... رفض جسده الطاهر كل ترياق، وأبَى إلا أن يرتجل عن صهوة جواده ليصافح الملائكة المقربين... وما هي إلا تنهدات هادئة وعميقة ، حتى انطفأت شمعة أضاءت دجى ولاته برهة طويلة من الزمان.
حين خروج جثمانه من داره، دفعني الفضول مع مجموعة من الصغار أن نقف وراء (بوتيك أڨّ) المجاور لـ(دار طالبن)؛ كي نشاهد الحشود وهي تحمل جسد الشيخ الطاهر على أكتافها . رأيناه مسجى في ثياب بيض ممددا على "صيدح لمسيد" ... ولو كنا نستحضر الشعر آنذاك ، لاستنطقنا رائعة أبي الحسن الأنباري في رثاء ابن بقيّة البغدادي ، التي يقول فيها :
علوٌّ في الحياة وفي المماتِ ** بحقٍّ أنت إحدى المعجزاتِ 
كأنـك قائـم فيهم خـطـيبا ** وكــلهـمُ قـيامٌ للصلاةِ
سمعت والدي (رحمه الله) وهو راجع من دفن (طالبن) ، يقول متنهدا - وتتردد في حلقه غصة من شدة الأسى والأسف على صاحبه - : ( الله يرحمُ، كان مطيبْ سوراتُ)

في ذلك اليوم من قيظ 1992، خيّمَ على ولاته جو مهيب ... فلم تك ترى وجها إلا و بادٍ على أساريره الحزن، ويغشاه شيء آخر يمكن وصفه بالخوف مما قد يخبؤه المستقبل للجيل الجديد...
تتلمذ على (طالبن) جميع أجيال مدينة ولاته المولودين في الستينات والسبعينات والثمانينات.... وأغلب رجال ولاته الأحياء - ممن تربوا في المدينة- أخذوا كلهم القرآن عنه، رحمه الله .

مررتُ أوان صيفٍ من سنة 2014 ، في زيارة للمدينة... ثم دخلتُ دار طالبن، فوجدتها خالية... انبعث في قلبي إحساس ممزوج بالأسى والألم والشوق : الأسى على زمن ذهبي ولَّى ولن يعود، والألم لما آل إليه حال الأجيال التي جاءت من بعده، والشوق إلى رؤية وجه الشيخ المبارك...
خلال تلك اللحظات، رجعتْ بي الذاكرة أعواما إلى الوراء... أيام كانت الدار تحوي ما بين الأربعين إلى الخمسين طالبا من أبناء المدينة... وتراءت ما بين عينيّ جلسة (طالبنَ) على مقعده الفولاذي، وذلك السوط الأخضر الرفيع وهو معلق بإحدى ركائز المقعد.... والتلاميذ يتنافسون أيهم يصل بصوته الطفولي الحاد إلى أذن الشيخ الفضيل ...
الدار – الآن- خاوية على عروشها، والتلاميذ كبَروا وارتحلوا عن المدينة... لا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا. همت دموعي بالإنهمال، غير أني تماسكت...جال بخاطري بيت الشاعر:

وقفت بالدار لـأْياً ما أبـيّنها ** والدار لو كلمتني ذات أخبارِ

ثم تذكرت طلعة لأحد البيظان يقول فيها :

هذا الدهر اتْفُ بيهْ ** ما رَتْ عنُّ غدارْ
أُ مارتْ ما تور بيهْ ** حَلاوَ ما تَمرارْ
خَظتْ اعلَ دار اليُومْ ** اعـلَيّ يالقيوم ْ
شفتْ اڨُومْ التيدومْ ** لَمْسَوِّ كانْ الدار ْ
محروڨ اوْ عاد احْمومْ ** سبحانك يالقهار
مَعوَدْ حرّاڨَ اڨـومْ ** ماهُ فاهمْ لخبارْ

انتهضت ذات صباح، لأزور قبر الشيخ على ربوة غير بعيد من " صدراية السلام عليكم" ... تبركت به، و دعوت له ثم تلوت الفاتحة على روحه الطاهرة... وقفلت راجعا، فبدأ الشعر يتراقص في رأسي . كان لا بد أن أنفث عني ذلك السم...
فكتبت هذه السينية ، اعترافا مني بحق ذلك الشيخ الكريم :

على الرَّمس رمسِ الشيخ فابْـكِ بلا بَخْـسِ *** وقَـلَّ لحقِّ الشيخ دمعٌ على رمسِ 
تبـرّكْ به وامسحهُ وادْعُ مـناجـيا *** لتـظفـرَ بالحسنى وتـنـجُ من النحـسِ
حَـفـيٌّ وفـيٌّ صــالح مـتعـفـفٌ * ** نـقيّ من الأوزار والرّيْـنِ والرجـسِ
عـليـك سلام الله ما عَـجّ قـارئ *** يرتل قــرآنا إلى مغـــرب الشمـــس
غرستَ كتاب الله إذْ نـحن صبية *** بـأذهانـنا، أكـرِمْ بذلك مـن غـرسِ
لقد ظل فـينا جـرح موتك نازفـاً *** كـأنك يا "طالبـنَ" فـارقــتَ بالأمـس 
ولو كان عـزرائيل يـقبل فـدْيـةً ** من الموت، أفـديـناك بالـمال والنـفـسِ
سيـبـقى مدى الأزمان ذكرك حاضرا ** وإن ننس لا ننسى عطاءك في الدرس
فما أحسن الأمداح في منتدى "الشفا" ** وما أعذب القرآن تتلوه في الخَـمـسِ !
(ولا نَصَّ كلّا حُبَّ) ينساب سائغا ** إلى الروح – إلا منك - والعقلِ والحسِّ
فـأسـكـنْـهُ يا رحمن صحبة والدي *** بأعلى جِنان الخـلْـد في حضـرة الـقـدْسِ 
وألحقْ بهم أمّي وخالي ومن لهم *** حقوق من الأعمام، والأهل، والجنسِ
وصلِّ أيا رحمن مـسيا وبكرة *** عــلـــى أحـمد الـمبعوث للـجن والإنــسِ

رحمك الله ياطالبنَ ، يا شيخنا المعطاء، وجعل دار النعيم مثواك... ورفعك بكل حرف علمتناه درجة من درجات الجنة، إلى أعلى عليين. وارحم آباءنا وأمهاتنا وأعمامنا وأخوالنا وجميع المسلمين.

الجملة الواقعة بين قوسين في صدر البيت العاشر اقتبستها من متن الشاطبية في القراءات السبع. استعملها الشاطبي في الإشارة إلى الخلاف بين القراء في الوصل والسكت والبسملة بين السورتين . فقال : 
ولا نص كلا حُبَّ وجه ذكرته ** وفيها خلاف جيده واضح الطلا
وفي البيت تقديم وتأخير يعرفه كل من ذاق طعم الشاطبية، ولا داعي هنا للخوض فيه....واستعرتها لمعنى آخر أترك للقارئ الحرية في تأويله كما يشاء...

عبد الله ولد المرواني

.

Haut du formulaire

 

هذه سيرة ولي الله تعالى سيدي محمد بن مولاي علي الولاتي كما كتبها معاصره الفقيه الفاضل العلامة الطالب ببكر بن أحمد المصطفى المحجوبي الولاتي في كتابه : منح الرب الغفور، نقلناها لينتفع بها إن شاء الله من أراد الاطلاع على سير أصحاب الهمم العالية من عباد الله الصالحين، وليدرك شبابنا اليوم ما كان عليه سلفنا الصالح من الاستقامة والخير. نسأل الله العلي القدير أن يصلح حالنا وحال جميع المسلمين.

هو الولي الكامل الشريف الظريف العفيف سيدي محمد بن مولاي علي بن مولاي شريف بن سيدي حم، وسيدي حم، من أهل توات بالجزائر، هو الجد الجامع لشرفاء ولاتة : أهل لخليفة وأهل اب عمار وأهل مولاي علي وأبناء عمهم. وقد كان انتقال الشرفاء من أبناء سيدي حم من إقليم توات بالجزائر إلى ولاتة حيث استقروا بها في القرن الثاني عشر الهجري.

ولد سيدي محمد بن مولاي علي بولاتة سنة 1240 هـ وبها توفي سنة 1304 هـ ،وقد عايش الطالب ببكر سيدي محمد بن مولاي علي مدة تزيد على الثلاثين سنة من العام 1274 هـ وحتى العام 1304 هـ تاريخ وفاة سيدي محمد بن مولاي علي.

هو السيد الأسنى والذخيرة الحسنى الشريف الأشرف الكامل الأبر التقي الزكي الأنور مشهور الولاية معظما عند الخاصة والعامة، بلغ رتبة لم يزاحم عليها، عظم صيته في البلاد واشتهر فضله فيها وسار في الأقاليم ذكره، بلغ في الصلاح والولاية فوق ما يذكر، ذا جد واجتهاد، ولزوم أدعية وأذكار، دائم العبادة يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله لا ينام فيه إلا قاعدا ونحو ذلك، عمل لآخرته كأنه يموت غدا، ملازما لتلاوة القرآن يختمه كل ليلة مرة أو أكثر، والذي أخذت أنا من فيه أنه كان ورده فدية الإخلاص وهي : مائة ألف من سورة قل هو الله أحد، يشرع فيها بعد حل النفل ويختمها قبل القائلة، وهي والله أعلم تعدل ختمتين من كتاب الله تعالى. فقد تناهى في الفضل والدين والصلاح وقوة اليقين، مشهور بالورع والزهد، ما سمعنا بمثله في بلدتنا، لا قبله ولا بعده، فهو شمس ضحاها وقمر سناها، وهو تاج بلدتنا وقطبها، مقطوع النظير ورعا ودينا واجتهادا في العبادة.

ومن زهده أنه لم يبت في داره دينار ولا درهم ولاغيره نافقا في سبيل الله، ينفق على جميع أقاربه، وكانت نفقته كل ليلة عشرين صاعا من الزرع وما فضل عن ذلك يتصدق به أو يشتري به أمة يعتقها لله تعالى، وقد أعتق ثلاثمائة وخمسين مملوكا لله تعالى، يشتري الأمة بنحو من أربعين مثقالا إلى عشرين مثقالا وهو أقلها ويعتقها لله تعالى، وإذا أعتق صغيرا أنفق عليه حتى يقدر على نفسه، فلم نسمع بمثله في هذه الحالة، لا قبله ولا بعده، فقد بلغنا أن ابن عمرأعتق كذا وكذا مملوكا وأن حكيم بن حزام أعتق ألف مملوك، وأن ابن عوف أعتق كذا وكذا مملوكا وأن عثمان بن عفان كذلك، فهؤلاء أعتقوا من مال وسعي وتجارة ومن كد واجتهاد وغير ذلك من الأسباب المكسبة للمال، وهذا السيد، سيدي محمد بن مولاي علي، أعتق هذا العدد من فيض الجليل، لا يبيع ولا يشتري ولا يسافر ولا يبيت عنده دينار ولادرهم فلم يشاركه في هذا العمل أحد رضي الله عنه ونفعنا به آمين.

وكان يصوم الدهر كله لايفطر في السنة إلا أربعة أيام :يوم الفطر ويوم العيد ويومين بعد يوم العيد لاغير ذلك، حتى توفي وهو صائم في اليوم الذي قبل يوم وفاته، وتوفي ليلة الثلاثاء بعد أن صلى العشاء، وكان لا ينام إلا على الطهارة صيفا وشتاء، لا أظن أنه يتمم قط، بل منذ أن بلغ إلى أن توفي رحمه الله تعالى.

وكان موصوفا بالصلاح وسلامة الباطن والتقوى والزهدوالاشتغال بما يعنيه عاملا بما علم ملازما إسباغ الوضوء على المكاره، لا تمر عليه ساعة إلا وهو على وضوء ملازما للمسجد يصلي فيه الصلوات الخمس في الجماعة، لم تفته فيه تكبيرة الإحرام منذ ثلاثين سنة أو أكثر، وكان كثير الأوراد يطوع له الزمن في أوراده من تسبيح وذكر وصلاة نافلة وغير ذلك، يختم في الزمن اليسير ما لا يختمه أحدنا في أيام كثيرة، وإذا رأيته يسبح في مسبحة لا تظن إلا أنه ذكر الله فيها مرات، وهو سبح فيها مائة تسبيحة فهذه كرامة وهي طي الزمن له كطي الأرض للأولياء.

وكان حسن الخلق لا يطوي بشره عن أحد، لا يمل جليسه منه ولو جلس معه دهره كله، حلو حديثه مع الناس في الوعظ وقصص الصالحين، ولا يتكلم بكلمة أو كلمتين من أخبار الدنيا إلا خرج منها إلى أخبار الآخرة بسرعة، وكان رحمه الله صاحب كشف يتكلم على الخواطر فإذا خطر في قلب جليسه شيئ حدثه بما يناسبه في ذلك الوقت، وكان يحدث المسافرين بما خطر في قلوبهم قبل قدومهم من سفرهم.

ومن كراماته تسخير الخلق فترى الناس يهدون له الأموال العظام من الأمكنة البعيدة مسافة أربعين يوما من أرض السودان وقرية تنبكت وأروان وشنجيط وغيرها من الأمكنة البعيدة ينفق جميع ذلك في سبيل الله أو يجعله في ثمن مملوك يعتقه لله تعالى فلو ملك ألف مثقال لما بات عنده منها مثقال واحد.

ومن أكبر كراماته التي هي أصل عبادته استقامته مع الشريعة منذ بلغ سن التكليف حتى توفي، وكان رحمه الله تعالى مسددا موفقا في القول والعمل لم نر قط ولم نسمع استقامة كاستقامته. ولقد اجتمعت معه ولله الحمد في مسجدنا ثمانية وعشرين سنة فما رأيته يفعل فعلا يستحى منه، وما رأيته صلى بتيمم في تلك المدة لصلاة واحدة، ولم تفته صلاة الجماعة في تلك المدة إلا لعذر كبير. وقد زاحمته ولله الحمد في الصلاة عن يمينه وعن يساره وعن خلفه وأمامه المنكب بالمنكب والقدم بالقدم وقد جربت بركته مرارا وجربها غيري فوجدها.

وكان من أحسن الناس خلقا، يسلم على من لقيه ببشر وطلاقة وجه وتعظيم، حتى إنه يقول للأمة إذا مرت به على رأسها الحطب أعانك الله ويدعو لها بما تحب، وفي الحديث : (إن حسن الخلق هو أعظم ما يوضع في الميزان).

وكان رحمه الله تعالى سخيا من الأسخياء عظيم النفع للخلق كلهم، وقف مائة وعشرين مدا بمد ولاتة للمسلمين المحتاجين وجعلها بيد ثلاثة رجال صالحين في جوانب قريتنا ولاتة. وكان عنده كل مسألة فيها منافع الخلق من : فأس وسكين وموسى وإبرة ومقص ومرآة ومنقاش. وكان مشهورا بسقي الماء، في داره نحو ثلاثين ظرفا كبيرا للماء لسقي المسافرين والضعفاء والمرضى، وكذلك ماء المسجدين مسجدنا الكبير ومسجد إديلب يصب فيهما الماء كل يوم. وكان قائما بعمارة المسجد من صلاة الخمس فيه وإيقاد قناديله فهو الذي يوقده في سدس الليل الأخير حتى يصلى عليه الصبح.

وكان رحمه الله تعالى يحب الكتب كثير العناية في تحصيلها حتى حصل خزانة نفيسة بالخط الحسن النفيس تزيد على أربعين مجلدا . وكان كثير الحياء لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان رحمه الله تعالى واسع الصدر من المتوكلين على الله حق التوكل لا يتداوى ولا يسترقي، وسمعت منه رحمه الله تعالى أنه إذا لدغته عقرب أو غيرها لا يسترقي من لدغتها ولا يعلم بها جليسه.

وكان من الصلحاء المتقين تام المروءة من أهل الجود والسخاء والصدقة وفعل الخير، وكان يلبس ما وجد من اللباس تارة يكون من أحسن الثياب وتارة يكون من أخشن القطن زاهدا في اللباس، وكان ملازما للجوع دائما ربما مكث أياما متواليات عن الأكل لا يفطر إلا على فضلة ماء ونحوه. وكان ملازما لبيته لا يخرج منه إلا للمسجد أو إلى صلاة الجنائز وداره في جوار المسجد قريب بابه من باب المسجد جدا، وكان كثير الزيارة لقبور الصالحين آخر الليل.

وكان رحمه الله تعالى بنى أمره على صدق النية في جميع أموره لا يفعل أمرا من الأمور إلا عن نية صادقة وكانت عبادته كلها خفية. وكان يدخل السرور على المذنبين ويدعو لهم بما يناسب أحوالهم، وكان رحمه الله تعالى حليما موصوفا بالحلم والزهد والتقى والورع ما رأينا ولا سمعنا بمثله قط لا في زماننا ولا في القرون الخوالي، وكان رحمه الله تعالى معروفا بالكشف ولكن لم يظهره للناس وربما ظهر بعضه منه بغير شعور منه، وحدثني ثقة أنه أتاه يوما بقدح صغير حسن هدية فأخذه وأعجبه ووضعه في يده اليمنى ثم رده إليه وقال له هذا قدح جيد ولكنه غير طيب، فلما سأل عن أصل القدح وجده كذلك مسروقا فرده إلى صاحبه المسروق منه. ثم وقع له مثل ذلك معه أيضا، تكلم مع امرأته في داره بكلام ثم ذهب إليه في داره وسلم عليه فقال له يا فلان اترك المرأة تفعل ما قالت لك، فقال سبحان الله ! هذا هو الكشف الحقيقي. رضي الله عنه ونفعنا به.

وكان حسن الصوت بالقرآن، لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داوود عليه السلام، وكان رحمه الله تعالى كثير الخوف والمراقبة لله تعالى. وكان إذا غضب على أحد من عبيده يرسل له ويقول له اجلس هنا فيأخذ شيئا من التراب فيجعله على رأسه عقوبة له بذلك ويقول له اذهب لا بارك الله فيك ولم يضرب بيده مملوكا ولا غيره قط.

وكان يحث على الصلاة في أول الوقت ويقول الصلاة عماد الدين فمن حفظها حفظه الله ومن ضيعها ضيعه الله، وكان يغضب إذا رأى أهل المسجد يؤخرون الصلاة أو يتكلمون في المسجد بكلام الدنيا ويقول الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الرقيق، وكان يتكلم بعد الصلاة في المسجد على ما في الضمائر وخواطر القلب له مكاشفات وكرامات في ذلك، وكان سالما من وساوس القلب وشواغله فما رأيته سهى في الصلاة ولا وسوس فيها ولا يرفع يديه إلا عند تكبيرة الإحرام بعد أن يحرم إمامه وهذا أمر لا يسلم منه أحد إلا من وفقه الله تعالى فترى كثيرا من المصلين يوسوس عند تكبيرة الإحرام ويرجع يديه ويقلبهما وذلك كله ما هو إلا من شواغل القلب.

وكان رحمه الله تعالى يحب الطيب ويستعمله كثيرا لا يدخل المسجد إلا عرفت أنه دخل فيه من طيبه ورائحته، ويحب الحلوى والعسل والسكر ويتحف به إخوانه المسلمين، وكان يحب تمر الهند وهو أقنات وربما كان قوته في الليل ويقسمه على إخوانه المؤمنين، لا أظن أنه في ولاتة أحد إلا وقد وصله معروف من هذا الولي لا من النساء ولا من الرجال والله تعالى أعلم.

وكان رحمه الله تعالى دائما على الطهارة، لا ينقض وضوءه إلا توضأ ودخل المسجد وركع فيه ركعتين ويحكي حديثا ربانيا : (طوبى لمن توضأ في بيته ثم زارني في بيتي فحق المزور أن يكرم زائره)، ولم يزل دائما على الخير من صغره حتى توفي رحمه الله تعالى موافقا في الأقوال والأفعال مدة عمره ، وأهل بلده يحبونه كلهم واتفقوا على فضله واستقامته وبذلك جرت سنة الله تعالى مع عباده المتقين، قال الله تعالى : (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) وفي المثل اتق الله يحبك الناس وإن كرهوا، وفي البخاري: (إذا أحب الله عبدا نادى أهل السماء إن الله أحب فلانا فأحبوه فيوضع له القبول في الأرض) وحب الناس علامة لمحبة الله تعالى، وكان رحمه الله تعالى أبا لليتامى والضعفاء والمساكين والأرامل والقرباء، شديد الرحمة والرأفة بهم، وكان قائما بأمور المسجد ومعمرا له في جميع أجزائه الليل والنهار حتى قيل يوم وفاته : اليوم تيتم المسجد.

وكان إذا جلس أهل المسجد يمدحون المصطفى صلى الله عليه وسلم في ربيع النبوي، اليوم الذي قبل ولادته عليه السلام ويوم الولادة ويوم تسميته وليلتيهما، على عادة أهل ولاتة، لا يبقى شيئ في داره إلا أرسل لهم منه شيئا ولا يزال كذلك حتى يختمونه، ومتى سمعهم يمدحون يخرج إليهم بلذائذ الأطعمة من تمر وعسل وسكر وغير ذلك مما في داره . وقد أعانه الله تعالى على أفعال الخير وما ينفع في الدار الآخرة، وكان منزله يشبه منازل الغرباء لزهده في التزخرف في المنزل لا يأنف عن حصير يضطجع عليه، وربما اضطجع في التراب دون حصير وبلا وسادة وقد توفي رحمه الله تعالى وهو مضطجع في التراب بلا وسادة. ولا يدخل أحد منزله إلا ظن أنه منزل أمة أو مسكين ضعيف لزهده في الدنيا وأنها ليست له بوطن.

وكان رحمه الله تعالى رؤوفا رحيما بالمؤمنين لا يذم أحدا ولا يعيبه، وكان يستحسن الحسن عند الناس متأدبا بالآداب المحمدية، وكان المساكين منه على بال يتفقد أحوالهم ويباسطهم ويوسع عليهم بحكايات الصالحين الصابرين الزاهدين. وكان يحسن إلى جيرانه غاية الإحسان، وكان رحمه رحمه الله تعالى شجاعا من أشجع الناس، كان يخرج إلى المقابر آخر الليل للاعتبار والزيارة وربما شاهد أهوالا عظاما وكذلك في المسجد. وكانت استقامته من أكمل الاستقامة يؤدي الفرائض المأمورات عند ما يدخل وقت الأمر بها ويأتي بها على الحالة التي أمر الله أن تؤدى عليها متأدبا بين يديه تعالى بكل خلق حسن لديه ولا يحوم حول المنهي عنه في حركة ولا سكون ولا يقصر عما يرضي ربه ولا ينطق إلا بذكر الله تعالى أو بما يرجو ثوابه ولا يدل إلا على ذكر الله تعالى أو على ما فيه الثواب، وكان متخلقا بقوله تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقوله عز وجل (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). والاستقامة هي أعظم وأفضل كرامات الأولياء وقد رزقها الله تعالى لهذا الولي الشريف رحمه الله تعالى.

وكان رحمه الله تعالى كثير الحياء قليل الأذى كثير الخير عديم الفساد صدوق اللسان عديم الكلام كثير العمل معدوم الزلل قليل الفضول كثير البر والرحمة وصولا وقورا صبورا إلى غير ذلك من الأخلاق المرضية.

وكان مولده سنة أربعين ومائتين وألف، وتوفي لعشر بقين من شوال ليلة الثلاثاء سنة أربع وثلاثمائة وألف فعمره خمس وستون سنة رحمه الله تعالى ونفعنا به. وكان رحمه الله تعالى نحيل الجسم بين الطول والقصر، وكان ضحكه التبسم لم ير ضاحكا قط، وكان خلقه القرآن يرضى برضاه ويغضب لسخطه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر رحمه الله تعالى ونفعنا به.