من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

بمناسبة شهر رمضان المبارك

ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.
  -النــص:
ومن أفطر في رمضان قضى وكفر إن تعمد، وقيل إنما يكفر من جامع، وهي عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد النبي صلى الله عليه وسلم على التخيير، والإطعام أفضل، أو مرتبة: العتق ثم الصوم ثم الإطعام. وتسقط بالإعسار.

   -الشــرح:

 (ومن أفطر) بأكل أو شرب أو جماع (في) نهار (رمضان قضى) يوما مكان اليوم (وكفّر) أي لزمته كفارة إن تعمد الفطر لحديث أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا. فقال: لا أجد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق تمر فقال صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدّق به، قال: يا رسول الله ما أحد أحوج مني. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال صلى الله عليه وسلم كلْه، أخرجه مالك في الموطإ ومسلم وأبو داود، وفيه ألزم الكفارة لمن أفطر عمدا سواء كان فطره بأكل أو شرب أو جماع لأنه رتّب الكفارة على مطلق الإفطار الشامل للثلاثة، وبه قال مالك وأبوحنيفة وطائفة، والله أعلم.

(وقيل إنما يكفّر من جامع) في نهار رمضان عمدا لحديث أبي هريرة: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا. قال أبو هريرة: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك إذ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعذق تمر قال: أين السائل؟ فقال: أنا فقال صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك. أخرجه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وأحمد والدارقطني والبزار. وبه تمسك الشافعي وأحمد ومن وافقهما في أنّ الكفارة خاصة بالجماع لأنّ الذمة بريئة فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين والله أعلم.

وأما وجوب القضاء مع الكفارة فلما في مرسل سعيد بن المسيب في الموطإ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له أي للرجل المذكور: «صم يوما مكان ما أصبت» وقال في الإرشاد: وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري، ووقعت زيادة الأمر بالقضاء أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب، وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة أصلا. وبه قال الأئمة الأربعة والجمهور وأسقطه بعضهم لأنه لم يرد في خبر عائشة ولا في خبر أبي هريرة ذكره، وعن الأوزاعي أنه إن كفّر بعتق أو إطعام قضى وإن صام شهرين دخل فيها قضاء اليوم. وفي الحديث اختصاص الكفارة بالعمد وهو قول مالك والجمهور خلافا لمن أوجبها على الناسي متمسكا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفسر الرجل عن جماعه أَهَلْ كان عمدا أو عن نسيان وترك الاستفسار في الفعل منزّل منزلة العموم في المقال، وتعقّب بأنه تبين عمده من قوله: احترقت وهلكت، فدلّ على أنه كان عامدا والله أعلم.

(وهي) أي الكفارة (عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد النبي صلى الله عليه وسلم) لحديث أبي هريرة: «أن العرق الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر صاعا» رواه أحمد. وفي حديث عائشة «أنه عشرون صاعا» رواه ابن خزيمة.

وفي مرسل عطاء عند مسرة فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم ببعضه وهو يجمع بين الرواية لمن قال عشرين صاعا أراد أصل ما كان فيه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة. والحديث حجة للجمهور في أنّ الكفارة مد لكل مسكين لأن العرق خمسة عشر صاعا، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهي على التخيير بين الثلاثة عند مالك وجماعة لحديث أبي هريرة عند مالك ومسلم وأبي داود فإنّ فيه: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ... الحديث، وهذه هي صفة التخيير. قال ابن عبد البر: هكذا روى الحديث مالك لم تختلف رواية عليه فيه بلفظ التخيير وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب، قاله محمد بن عبد الباقي.

(والإطعام أفضل) أي من العتق والصوم عند مالك لحديث عائشة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه احترق قال مالك: قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق فقال صلى الله عليه وسلم: أين المحترق. قال الرجل: أنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا، أخرجه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث أنّ الإطعام أفضل لاقتصار عائشة عليه وبه استدلّ مالك على أفضليته والله أعلم.

(أو) هي (مرتبة) لا يجوز الانتقال عن الأول إلى الثاني إلا عند العجز عنه وترتيبها هكذا كما في الحديث، (العتق) هو المقدّم (ثم) يليه (الصوم) أي صوم شهرين متتابعين عند العجز عن العتق (ثم) يليه (الإطعام) أي إطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم لحديث أبي هريرة عند الشيخين فإنّ فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: هل تجد رقبة تعتقها. قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، قال: لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا قال: لا... الحديث. فظاهره أنّ الكفارة مرتّبة هكذا. وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وطائفة فقالوا ألاّ ينتقل عن العتق إلاّ عند العجز عنه، ولا عن الصوم إلاّ عند العجز عنه، وأجاب مالك عن هذا الحديث بأنّ الترتيب فيه غير مراد بدليل الاقتصار على الإطعام في حديث عائشة عند الشيخين والله أعلم.

(وتسقط) أي الكفارة (بالإعسار) لحديث الرجل الذي واقع أهله في نهار رمضان لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم سكت عنه لما أخبره بإعساره عن الكفارة، ولما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عذق التمر وأمره أن يتصدّق به وأخبره أنه هو أحوج الناس إليه قال له: كُلْهُ. فدلّ الحديث على أنّ الكفارة ساقطة عنه لعجزه عن الصوم وعسره بالعتق والإطعام واحتياجه لما أعطاه، ولو كانت باقية في ذمته إذا أيسر لأخبره النبي صلى الله عليه وسلم. ودعوى الخصوصية بهذا الرجل تحتاج لدليل لأنها لا تثبت بالاحتمال لأنّ الأصل في الأحكام الشرعية العموم فمن ادّعى خصوصية هذا الحكم بهذا الرجل فعليه البيان والله أعلم. وبه قال الأوزاعي وعيسى بن دينار من المالكية وهو أحد قولي الشافعي.

وقال الجمهور لا تسقط الكفارة بالإعسار، ثم اختلفوا: فقال الزهري: هذا الحكم خاص بهذا الرجل، وإلى هذا أنحى إمام الحرمين، وردّ بأنّ الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ ولم يبين قائله ناسخه.

وقيل المراد بالأهل المأمور بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقتهم من أقاربه وهو قول بعض الشافعية وضعف بالرواية الأخرى التي فيها أطعمه عيالك، وبالرواية المصرحة بالإذن له في أكله أي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم له: كله. وقيل لمّا كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم وهو ظاهر الحديث. قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل إعطاءه لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدّق عليه وعلى أهله كما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن استقرارها في ذمته ليس مأخوذا من الحديث، اهـ من فتح الباري.

بمناسبة شهر رمضان المبارك
 ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه
 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،
         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.


  -النص:
وفي الحجامة دليلان، والراجح نسخ الفطر. ومن لم يدع قول الزور والعمل به فصومه ناقص. ويكره الوصال وقيل يجوز للسحر. ومن أفطر يظن الغروب وأخطأ قضى. ومن أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه ولا قضاء.

  -الشرح:
(وفي الحجامة دليلان) من السنة: هل تفطر الصائم أو لا؟ أما دليل عدم الإفطار بها فحديث أبي سعيد قال: «أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم» أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني. قال ابن حزم: وإسناده صحيح. وأخرج مالك في الموطإ عن ابن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام يحتجم حتى يفطر. قال الباجي لما كبر ابن عمر وضعف خاف أن تضطره الحجامة إلى الفطر فتركها وكان يحتجم في حال قوة يأمن فيها الضعف ثم ترك خيفة الضعف لما أسن.
وأخرج مالك في الموطأ أيضا أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، قال البخاري ويذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صياما. هكذا أخرجه البخاري معلقا وأخرجه بن أبي شيبة عنهم موصولا. وأما دليل الإفطار بالحجامة فهو ما أخرجه البخاري عن الحسن عن غير واحد أي من الصحابة مرفوعا فقال أفطر الحاجم والمحجوم قال البخاري وقال لي عباس حدثنا عبد الأعلى حدثنا يونس عن الحسن مثله، قيل له أي للحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ثم قال الله أعلم، أخرجه النسائي موصولا.
قال في الفتح: الجمهور على عدم الفطر بالحجامة، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبي ثور ويفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب عليهما الكفارة. وقال بوجوب القضاء عليهما من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وابو الوليد النيسابوري. ونقل الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث وبذلك قال الداودي من المالكية.
(والراجح) في الحجامة (نسخ) حديث (الفطر) بها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم بحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قال في الإرشاد: حديث ابن عباس ناسخ لحديث أفطر الحاجم والمحجوم لأنّه جاء في بعض طرقه أنّ ذلك كان في حجة الوداع سنة عشر، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم في الفتح سنة ثمان قبله بعامين. قال الشافعي: فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ وحديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ. وقال ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب. لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح. فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدلّ على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما.
قال في الفتح: والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفطر هذا ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم.
وفي البخاري عن ثابت البناني أنه سأل أنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام.
(ومن لم يدع) أي يترك (قول الزور) أي الكذب والميل عن الحق في الصوم (و) لم يدع (العمل به) أي بالزور والباطل (فصومه ناقص) أي لا ثواب فيه، ولكنه مجزي لحديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة. وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقاتٌ: من لم يدع الخنا والكذب فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه. ويدخل في قول الزور والعمل به جميع المعاصي لمن لم يتركها في الصوم فصومه ناقص. قال في الإرشاد: والجمهور على أنّ الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم. وعن الثوري - كما في الإحياء - أنّ الغيبة تفسده، قال: وروى الليث عن مجاهد: خصلتان تفسدان الصوم: الغيبة والكذب. هذا لفظه. والمعروف عن مجاهد: خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب. رواه ابن أبي شيبه. والصواب الأول. نعم هذه الأفعال تنقص الصوم. أي لأنها محرمة أصالة ويتأكّد تحريمها في الصوم لما فيها من الاستهانة به، ولذلك ورد النهي عنها في خصوص الصوم. ففي الموطإ والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم. والرفث: فحش الكلام، والجهل: كلام السفه. قال محمد بن عبد الباقي عند قوله: الصيام جنة: أي وقاية وستر قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها، ولذا قيل إنه لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين، وقيل جنة من النار، وبه جزم ابن عبد البر لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها. وقد زاد الترمذي وسعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد: جنة من النار. ولأحمد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة: جنة وحصن حصين من النار. وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاص: جنة كجنة أحدكم من القتال، وللطبراني عنه: جنة يستجنّ بها العبد من النار. وللبيهقي عنه: جنة من عذاب الله، ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح: الصيام جنة ما لم يخرقها، زاد الدارمي بالغيبة. والتفسيران متلاقيان لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترا له من النار. وفي الإكمال معناه أنه يستر من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النووي.
(ويكره الوصال) أي مواصلة الصوم بأن يصوم الليل مع النهار لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة:187]، فمفهوم الغاية النهي عن الوصال، ولحديث ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله فإنك تواصل فقال صلى الله عليه وسلم: إني لست كهيئتكم إني أُطْعَمُ وأُسْقَى، أخرجه مالك في الموطإ والبخاري ومسلم، وحديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والوصال إياكم والوصال قالوا فإنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، أخرجه مالك في الموطإ وأحمد وابن أبي شيبه، وأخرج البخاري ومسلم عن أنس نحوه، وأخرجا عن عائشة قالت: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم.
وروى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وغيرهم بإسناد صحيح عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل. قال في الإرشاد: والنهي يقتضي الكراهة وهل هي للتنزيه أو التحريم؟ الأصح عند الشافعية التحريم وكرهه مالك.
وقال محمد بن عبد الباقي: والنهي عن الوصال للكراهة عند مالك والجمهور لمن قوي عليه وغيره ولو إلى السحر لعموم النهي، وقيل للتحريم وهو الأصح عند الشافعية. وأجازه جماعة وقالوا النهي عنه رحمة وتخفيف لمن قدر فلا حرج، لحديث الصحيحين عن عائشة قالت: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم.
(وقيل يجوز) الوصال (للسحر) أي إلى السحر لحديث أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، أخرجه البخاري. قال في الإرشاد: وهو أي جواز الوصال إلى السحر قول اللخمي من المالكية ونقل عن أحمد بن حنبل وعبارة المرداوي في تنقيحه: ويكره الوصال ولا يكره إلى السحر نصا وتركه أولى. وقال به ابن خزيمة من الشافعية وطائفة من أهل الحديث. وقال في الفتح: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر.
ويجوز الوصال مطلقا لمن لا يشق عليه عند ابن الزبير وأخت أبي سعيد من الصحابة، ومن التابعين عبد الله بن أبي نعيم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي. قال في الفتح: وروى ابن أبي شيبه عن ابن الزبير بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما.
(ومن أفطر) في نهار رمضان (يظن الغروب) أي غروب الشمس (فأخطأ) أي تبين له أن الشمس لم تغرب (قضى) يوما مكان ذلك اليوم بعد أن يمسك بقيته لحديث هشام بن عرفة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق لإ قالت: أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس . قيل لهشام فأمروا بالقضاء ؟ قال لابد من قضاء، أخرجه البخاري وأبو داود وابن خزيمة وابن أبي شيبه وأحمد في مسنده.
وفي الموطإ عن عمر أنه أفطر ذات يوم في رمضان في يوم غيم ورأى أنه قد أمسي فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين طلعت الشمس. فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا في الوقت. قال مالك: يريد بقوله الخطب يسير: القضاء.
وروى عبد الرزاق عن عمر أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا، يقضي يوما. وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنفية ولا كفارة. قال في الإرشاد: وحكي في الرعاية من كتب الحنابلة: لا قضاء على من جامع يعتقده ليلا فبان نهارا، لكن الصحيح من مذهبهم وجزم به الأكثر أنّ عليه القضاء والكفارة، وقد روي عن مجاهد وعطاء وعروة بن الزبير أنه لا قضاء عليه، وجعلوه بمنزلة من أكل ناسيا، وعن عمر يقضي، وفي رواية أخرى عنه لا يقضي رواهما البيهقي؛ وضعفت الرواية الثانية النافية للقضاء.
(ومن أكل أو شرب) في نهار رمضان حال كونه (ناسيا) صومه (فليتمّ صومه) بقية يومه (ولا قضاء) عليه لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نسي فأكل أوشرب فليتم صومه فإنّما أطعمه الله أو سقاه أخرجه البخاري. وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة. وأخرج أحمد عن أمّ إسحاق أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأوتي بقطعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين: آلآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك. وأخرج عبد الرزاق عن عمر وابن دينار أنّ إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائما فنسيت فطعمت. فقال: لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت وشربت. قال: لا بأس الله أطعمك وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت. قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. قال في الفتح: قال ابن العربي: تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث يعني حديث البخاري المتقدم وتطلّع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليها لأنّ الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فمن أكل أو شرب ناسيا فقد ترك ركنه فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة فتبطل صلاته، لأنّ الركن جزء الماهية تنعدم بانعدامه، ثم قال ابن حجر في الفتح: وقد أفتى به - أي بعدم القضاء – على من أكل ناسيا في رمضان جماعة منهم زيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر ثم وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] والنسيان ليس من كسب القلب ولا شك أنّ من ألزم القضاء قد ووخذ وموافق للقياس أيضا في إبطال الصلاة بعد الأكل والشرب دون نسيانه، وكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل.

بمناسبة شهر رمضان المبارك

 ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.

   -النص:

 ويجوز إصباح الصائم جنبا، والسواك كل النهار، والقبلة مطلقا أو لمن يملك نفسه كالمباشرة، ولا بأس باغتساله، ومضمضته واستنشاقه من غير مبالغة ولبسه ثوبا مبلولا، وذوقه القدر واكتحاله وقيئه غلبة، وفي عمده القضاء.

 الشرح:     

 (ويجوز إصباح الصائم جنبا) لحديث عائشة (أن رجلا قال لرسول الله صلى  الله عليه وسلم  وهو واقف بالباب وأنا أسمع: يا رسول الله إني أصبحت جنبا وأنا أريد الصيام فقال صلى  الله عليه وسلم: وأنا أصبحُ جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال له الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى  الله عليه وسلم وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتَّقِي) أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وتابعه إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن عبد الرحمن عند مسلم.

ولحديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى  الله عليه وسلم أنهما قالتا: (كان رسول الله صلى  الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم) أخرجه مالك في الموطأ والبخاري وزاد (ثم يغتسل). ورواه مسلم عن مالك بهذا الإسناد الذي في الموطأ، ورواه أيضا من طريق عمرو بن الحارث عن عبد ربه عن عبد الله بن كعب الحميري (أن أبا بكر حدثه أن مروان أرسله إلى أم سلمة يسأل عن الرجل يصبح جنبا أيصوم فقالت: كان صلى  الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم لا يفطر ولا يقضي). [و] لحديث أبي بكر بن عبد الرحمن قال: (كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم الأموي وهو أمير المدينة فذكر له عبد الرحمن أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرجمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلم عليها ثم قال: يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم قالت: عائشة ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله صلى  الله عليه وسلم  يصنع؟ قال عبد الرحمن: لا والله قالت عائشة: فأشهد على رسول الله صلى  الله عليه وسلم  إنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم، ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عبد الرحمن عن ذلك فقالت مثلما قالت عائشة، قال أبو بكر فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا فقال مروان أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ذلك، قال أبو بكر فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ثم ذكر له ذلك، فقال أبو هريرة لا علم لي بذلك، إنما أخبرنيه مخبر)، أخرجه مالك في الموطإ والبخاري ومسلم والنسائي، ولفظ مسلم (فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل بن عباس ولم أسمعه من النبي صلى  الله عليه وسلم)، ولفظ البخاري (فقال: كذلك أخبرني الفضل بن عباس وهو أعلم)، وفي رواية النسفي عن البخاري (وهن أعلم) أي أزواج النبي صلى  الله عليه وسلم وفي مسلم: (فقال أبو هريرة: أهما قالتا ذلك؟ قال: نعم قال: هما أعلم ورجع أبو هريرة عما كان يقول)، وللنسائي أن أبا هريرة قال: (أخبرنيه أسامة بن زيد)، وله أيضا (أخبرنيه فلان وفلان) فأرسل الحديث أولا ثم أسنده لما سئل عنه. وحديث الفضل بن عباس في مسلم وحديث أسامة بن زيد في النسائي مرفوعا «من أدركه الفجر جنبا فلا يصم»، وللنسائي عن أبي هريرة (لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم، محمد - ورب الكعبة- قاله).

قال في الفتح: ورجع أبو هريرة عن الفتوى بعدم صحة صوم من أصبح جنبا إما لرجحان رواية أمي المؤمنين في جواز ذلك صريحا على رواية غيرهما معهما من الاحتمال إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب أو على غير الفرض وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم وإما لاعتقاده أن يكون خبر أمي المؤمنين ناسخا لخبر غيرهما.

وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض الشافعية كما نقله الترمذي ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي، وأمّا ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعا أو كالإجماع وذهب ابن المنذر والخطابين وغير واحد وابن دقيق العيد إلى أنّ حديث عائشة وأم سلمة ناسخ حديث أبي هريرة والفضل بن عباس. قال ابن دقيق العيد: ويقوي ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}[البقرة:187]لأنّه يقتضي إباحة الوطء ليلة الصوم، ومن جملة الليلة الوقت المقارب لطلوع الفجر. فيلزم من ذلك إباحة الجماع فيه، ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه، فإنّ إباحة السبب للشيء إباحة لذلك الشيء. قال ابن حجر: وهذا أوّلا من سلوك الترجيح بين الخبرين بأن حديث أمي المؤمنين أسند كما في البخاري.

وقال ابن عبد البر: حديث أمي المؤمنين صح وتواتر وصرح البخاري برجحانه، ولأنه يتضمن قوله، والفعل مرجح على القول عند بعض الأصوليين، ولأنه وافق القرآن لأنه فيه إباحة الجماع إلى الفجر فإذا أبيح حتى يتبين الفجر فمعلوم أن الاغتسال إنما يقع بعده وقد قال تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }[البقرة:187].

(و) يجوز (السواك) أي استياك الصائم (كل النهار) أي في أوله وآخره وفي أي جزء شاء منه لحديث عامر بن ربيعة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى  الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي أو أعدّ) أخرجه أبو داود والترمذي موصولا وقال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه البخاري معلقا. قال البخاري وقال أبو هريرة عن النبي صلى  الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي صلى  الله عليه وسلم ولم يخص أي النبي صلى  الله عليه وسلم الصائم من غيره.

وأخرج ابن أبي شيبه عن ابن عمر أنه قال: (يستاك الصائم أول النهار وآخره). وأخرجه البخاري عنه معلقا ولفظه: وقال ابن عمر: (يستاك أي الصائم أول النهار وآخره).

وبجواز السواك للصائم قال عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي. وقال النووي في شرح المهذب أنه المختار، وكره عطاء ومجاهد والشافعي وإسحاق وأبو ثور السواك للصائم آخر النهار لحديث: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» والسواك يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضله، وإن كان في السواك فضل لكن فضل الخلوف أعظم. وتعقب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية، غايته أنه يخف، وأما الخبر ففائدته عظيمة بديعة وهي أن النبي صلى  الله عليه وسلم إنما مدح الخلوف نهيا للناس عن تقزز مكالمة الصائمين بسبب الخلوف لا نهيا للصائمين عن السواك، وهذا التأويل أولى لأنّ فيه إكرام الصائم، ولا تعرض فيه للسواك، ولذا قال ابن دقيق العيد: يحتاج النهي عن السواك في الصوم إلى دليل يختص به عموم قوله صلى  الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وفي رواية: «عند كل وضوء» وحديث الخلوف لا يخصصه.

(وتجوز) (القبلة) للصائم (مطلقا) أي سواء كان يملك نفسه أم لا وسواء كان شابا أو شيخا لحديث عائشة قالت: «إن كان رسول الله صلى  الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت» رواه مالك في الموطإ والشيخان، وفي الموطإ أيضا عن عطاء بن يسار: (أنّ رجلا قبّل امرأته وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدا شديدا فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى  الله عليه وسلم فذكرت ذلك لها فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى  الله عليه وسلم يقبل وهو صائم فرجعت فأخبرت زوجها بذلك فزاده ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله صلى  الله عليه وسلم الله يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة فقال رسول الله صلى  الله عليه وسلم: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت: قد أخبرتها فرجعت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله صلى  الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله صلى  الله عليه وسلم  ما شاء فغضب رسول الله صلى  الله عليه وسلم وقال: «والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده». هكذا رواه مالك في الموطإ مرسلا ورواه عبد الرزاق موصولا بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنّ رجلا قبّل امرأته إلى آخر الحديث.

وفي الموطإ عن عائشة بنت طلحة (أنها كانت عند عائشة زوج النبي صلى  الله عليه وسلم فدخل عليها زوجها هنالك وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو صائم فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها؟ فقال: أقبّلها وأنا صائم؟ قالت: نعم). وفيه أيضا (عن زيد بن أسلم أن ابا هريرة وسعد بن أبي وقاص كانا يرخصان في القبلة للصائم).

وأخرج أبو داود والنسائي عن عمر أنه قال: (قبّلت وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبّلت وأنا صائم. قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمَه؟) قال النسائي هذا حديث منكر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قال المازري: أشار صلى  الله عليه وسلم إلى فقه بديع وهو أنّ المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه كما أنّ القبلة مفتاح الجماع، فكما ثبت أن أوائل الشرب لا تنقض الصوم فكذلك أوائل الجماع.

(أو) تجوز القبلة (لمن يملك نفسه) عن الجماع دون من يخاف أن لا يملك نفسه لحديث عائشة زوج النبي صلى  الله عليه وسلم  أنها كانت إذا ذكرت أن رسول الله صلى  الله عليه وسلم  يقبّل وهو صائم تقول: (وأيّكم أملك لنفسه من رسول الله صلى  الله عليه وسلم) رواه مالك في الموطإ والشيخان، وفيه أنّ القبلة تجوز للصائم الذي يملك نفسه عن الجماع دون من لا يملك نفسه والله أعلم. وقال الظاهرية: القبلة للصائم سنة وقربة من القرب اقتداء بفعله صلى  الله عليه وسلم. ورُدَّ بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك نفسه فليس كغيره.

(أو) تجوز القبلة (للشيخ) فقط دون الشباب لأنّ الشيخ يملك نفسه من الوقوع في الجماع لضعف قوته ولا كذلك الشاب، والأصل في ذلك ما رواه في الموطإ عن ابن عباس (أنه سئل عن القبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب). وما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة (أن النبي صلى  الله عليه وسلم  رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب وقال الشيخ يملك إربه والشاب يفسد صومه).

قال محمد عبد الباقي: وبالفرق بينهما قال مالك في رواية والشافعي وأبو حنيفة، وعن مالك كراهتها في الفرض دون النفل والمشهور عنه كراهتها مطلقا.

(كالمباشرة) أي وضع الزوج بشرته على بشرة زوجته، فإنها تجوز لمن يملك نفسه دون من لا يملكها لحديث عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه) رواه البخاري، ورواه الطحاوي عنها أنها قالت: (الصائم يحل له كل شيء إلا الجماع).

وروى النسائي عن الأسود قال: (قلت لعائشة: أيباشر الصائم زوجته؟ قالت: لا، قلت: ليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: كان أملككم لإربه).

(ولا بأس باغتساله) أي الصائم، لما رواه البخاري عن أنس معلقا، ولفظه: وقال أنس: ( إنّ لي أَبْزَنًا -أي حوضا- أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ).

(و) لا بأس (بمضمضة) أي الصائم لحديث عمر قال: (قبّلت وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبّلت وأنا صائم. قال صلى  الله عليه وسلم: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قال عمر: لا بأس به، قال صلى  الله عليه وسلم: فَمَه) رواه أبو داود والنسائي، وفيه أنّ المضمضة تجوز للصائم لأنّ النبي صلى  الله عليه وسلم  جعلها أصلا وقاس عليه القبلة والله أعلم.

(و) لا بأس (باستنشاقه) أي الصائم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره الماء» رواه مسلم مسندا، وأخرجه البخاري مترجما به قال البخاري: ولم يميّز بين الصائم وغيره.

(من غير مبالغة) فيه لحديث لقيط بن صبرة أنّ النبي صلى  الله عليه وسلم  قال له: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة.

(و) لا بـ (لبسه) أي الصائم (ثوبا مبلولا) لما رواه البخاري عن عمر معلقا ولفظه: (وبل ابن عمر لإ ثوبا فألقاه عليه وهو صائم) .

(و) لا بـ(ذوقه) أي الصائم (القدر) أي طعامه هل صلح طعمه أم لا؟ من ابتلاع لما رواه البخاري معلقا ولفظه: (وقال ابن عباس: لا بأس أن يتطعم أي الصائم القدر أو الشيء). وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبه عن ابن عباس موصولا ورواه البيهقي.

(و) لا بـ (اكتحاله) أي الصائم لما رواه البخاري عن أنس معلقا ولفظه: «ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل بأسا» أي إثما. وهذا الأثر رواه أبو داود عن أنس موصولا. قال في الإرشاد: وهذا هو مذهب الشافعية والحنفية، وقال المالكية والحنابلة إن اكتحل بما يتحقق معه الوصول إلى حلقه أفطر.

(و) لا بأس بـ (قيئه) غلبةً أي إنّه لا يبطل لما رواه البخاري عن أبي هريرة ؛ أنّه قال: «إذا قاء الصائم فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج ويذكر أنه يفطر والأول أصح». قال البخاري: وقال ابن عباس وعكرمة الصوم مما دخل وليس مما خرج.

(وفي عمده) أي القيء (القضاء) أي أنّ الصائم إذا استقاء، والأصل في ذلك حديث أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض، رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: والعمل عند أهل العلم عليه. وبه يقول الشافعي وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وقد صححه الحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه ابن حبان.

وقال ابن حجر في الفتح: أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه ومن تعمده وقال ابن بطال وعن ابن عمر وابن مسعود لا يفطر من قاء مطلقا سواء سبقه أو تعمده وهذه إحدى الروايتين عن مالك. واستدل الأبهري على سقوط القضاء عمن استقاء عمدا بأنه لا كفارة عليه على الأصح عندهم، قال فلو وجب القضاء لوجبت الكفارة، وارتكب عطاء والأوزاعي وأبو ثور شططا فقالوا يقضي ويكفّر، ونقل ابن المنذر الإجماع على سقوط القضاء عمن ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن»...

 

بمناسبة شهر رمضان المبارك

ننشر بإذن الله على فقرات متسلسلة باب الصوم وشرحه

 من كتاب"العروة الوثقى على منبع الحق والتقى" للفقيه محمد يحيى الولاتي،

         ويتميز هذا النص بحرص المؤلف فيه- رحمه الله- على تأصيل الأحكام التي يوردها.

-النص:

يجب صوم رمضان بالرؤية أو بإكمال شعبان ثلاثين. وتثبت بعدلين أو عدل ورؤيته نهارا للقابلة، وصحته بنية من الليل، وقيل يصح مطلقا لمن لم يفطر بنية من النهار أو النفل فقط وبإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وبنقاء من الحيض، فلا تصوم الحائض وعليها قضاؤه. والسنة تعجيل الإفطار قبل الصلاة أو بعدها، وكونه على رطبات، فتمرات، فحسوات من ماء، وتأخير السحور لقرب الفجر وهو سنة وبركة.

الشرح:                             

(هذا باب في بيان أحكام الصوم( وهو لغة مطلق الإمساك وشرعا الإمساك عن شهوتي البطن والفرج (يجب صوم) شهر (رمضان) بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ  تَتَّقُون}[البقرة:183] وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }[البقرة:185]وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» أخرجه البخاري ومسلم، وقدّم مسلم صوم رمضان على الحج.وحديث طلحة بن عبيد الله قال: (جاء رجل من أهل نجد إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق» أخرجه البخاري.

وأما الإجماع فقد انعقد بين العلماء على وجوب صوم رمضان.

(ويثبت بـ) سبب (الرؤية) أي رؤية الهلال (أو بإكمال) عدة (شعبان ثلاثين) يوما لحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له» أخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم، ففسر الأئمة الثلاثة والجمهور قوله  صلى الله عليه وسلم «فاقدروا له» بإتمام عدة شعبان ثلاثين يوما، وقالت طائفة معناه ضيفوا له وقدروه تحت السحاب، وبه قال أحمد وغيره ممن يجوز صيام صبيحة الغيم عن رمضان، وقال ابن سريج: قدروه بحسب المنازل، وكذا قاله ابن قتيبة من المحدثين ومطرف بن عبد الله من التابعين. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف وأما ابن قتيبة فليس ممن يعرج عليه في مثل هذا، وقال ابن المنذر: صوم يوم ثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة. وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ولم يفصل بين خاسف وغيره فمن فرق بينهما كان محجوجا بالإجماع قبله. وفي الموطأ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدد ثلاثين».وفي البخاري عن أبي هريرة أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».وفيه أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين».ورواه ابن خزيمة عن ابن عمر أيضا. فقوله صلى الله عليه وسلم: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» تفسير لقوله: «فاقدروا له» والله أعلم.

(وتثبت) الرؤية (بعدلين) لحديث أبي داود والنسائي أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «إن شهد عدلان فصوموا وأفطروا». فمفهومه أن رؤية رمضان لا تثبت بعدل، وبه قال مالك. ولحديث أبي وائل قال: (أتانا كتاب عمر بن الخطاب أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس).(أو عدل) واحد لحديث ابن عباس قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال قال: أتشهد أن لا إله إلا الله أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم قال  صلى الله عليه وسلم: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا) رواه أصحاب السنن. ولحديث ابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله  صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود وابن حبان وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أشهر قوليه وأصحهما عند أصحابه.

(ورؤيته) أي الهلال (نهارا) سواء كان قبل الزوال أو بعده (لـ)لليلة (القابلة) لا الماضية، لما في الموطأ عن مالك أنه بلغه (أن الهلال رئي في زمان عثمان بن عفان بعشي فلم يفطر عثمان حتى أمسى وغابت الشمس).ولحديث أبي وائل قال: (أتانا كتاب عمر بن الخطاب أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس). وهذا هو مذهب الجمهور، وفصّل الثوري وأبو يوسف وابن حبيب وابن وهب فقالوا: إن ريئ قبل الزوال فهو للماضية وإن ريئ بعده فهو للقابلة لما رواه النخعي عن عمر أنه قال: (إذا رأيتم الهلال قبل الزوال فأفطروا وإذا رأيتموه بعده فلا تفطروا). قال ابن عبد البر: والأول أصح لأنه متصل والثاني منقطع لأن النخعي لم يدرك عمر. قال الباجي: وراويه عن النخعي مجهول.

(وصحته) أي الصوم منوطة (بنية) مبيتة (من الليل) لما في الموطأ عن ابن عمر أنه قال: (لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر أي نواه من الليل). ولحديث حفصة أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له». رواه أبو داود والنسائي. قال ابن عبد البر: وهو أحسن ما روي في هذا الباب وقد رواه النسائي من طريقين أخريين موقوفا وقال إنه الصواب، ورواه مالك في الموطأ عن عائشة وحفصة موقوفا. قال ابن عبد البر: لكن عمل بظاهر إسناده جماعة فصححوا رفع الحديث المذكور منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وبن حزم وظاهره العموم في الفرض و النفل.وهذا هو مذهب مالك والليث وبن أبي ذئب.

(وقيل يصح) الصوم (مطلقا) أي رمضان وغيره (بنية) محدثة (من النهار) أي في النهار (لمن لم يفطر) لما أخرجه البخاري عن سلمة بن الأكوع (أن النبي  صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم صومه أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل).قال في الفتح: واستدل بحديث سلمة هذا على صحة من لم ينوه من الليل سواء كان رمضان أو غيره لأنه  صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم أثناء النهار فدل على أن النية لا تشترط.قال في الإرشاد واستدل به أبو حنيفة على أن صوم الفرض يجوز بنية من النهار لأن صوم عاشوراء كان فرضا ورُدّ بأنه إمساك لا صوم وبأن عاشوراء لم يكن فرضا عند الجمهور.قال في الفتح وعلى أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب فتنسخ معه أحكامه وشرائطه بدليل قوله «ومن أكل فليتم»، ومن لا يشترط النية من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار. وصرح ابن حبيب من المالكية بأن ترك التبييت من خصائص عاشوراء، وعلى تقرير أن حكمه باق فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء فيحتمل أن يكون الأمر بالإمساك بحرمة الوقت كما يؤمر به من قدم من سفر في نهار رمضان وكما يؤمر به من أثبت له رمضان في يوم الشك وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء بل قد ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة (أن أسلم أتوا النبي  صلى الله عليه وسلم فقال لهم: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه).وقال في الإرشاد: وردّ تمسك الحنفية بحديث سلمة بن الأكوع بأنه ليس فيه أنهم لا قضاء عليهم بل في أبي داود أنهم أتموا بقية اليوم وقضوه ا[.

(أو) يصح (النفل فقط) أي هو الذي يصح بنية محدثة من النهار لما في البخاري عن أم الدرداء قالت: (كان أبو الدرداء يقول لأهله: أعندكم طعام؟ فإن قلنا: لا قال: فإني صائم يومي هذا) قال البخاري: وفعله أي الصوم بنية من النهار أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة. قال في الإرشاد: وصل أثر أبي طلحة عبد الرزاق ووصل أثر أبي هريرة البيهقي ووصل أثر ابن عباس الطحاوي، ووصل أثر حذيفة عبد الرزاق وهذا كله في النفل قبل الزوال. ويدل له قوله في أثر أم الدرداء عند بن أبي شيبة (كان أبو الدرداء يغدو أحيانا فيسأل الغداء فإن قلنا: لا قال: فإني صائم)، وفي أثر أبي طلحة عند عبد الرزاق (أنه كان يأتي أهله فيقول: هل من غداء؟)، وقول ابن عباس (لقد أصبحت وما أريد الصوم وما أكلت من طعام ولا شراب ولأصومن يومي هذا).والغداء اسم لما يؤكل قبل الزوال وهذا مذهب الشافعية. واستدل له أيضا بأن النبي  صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوما: «هل عندكم من غداء؟ قالت: لا قال: فإني أصوم إذًا» رواه الدارقطني وصحح إسناده، ويحكم بالصوم في ذلك من أول النهار فيثاب على جميعه. وفي أثر حذيفة عند عبد الرزاق أنه قال (من بدا له الصيام بعدما تزول الشمس فليصم).

وإليه ذهب جماعة سواء كانت النية حدثت قبل الزوال أو بعده وهو مذهب الحنابلة وعبارة المرداوي في تنقيحه. ويصح صوم النفل بنية من النهار مطلقا ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية.

قال في الفتح: قال النووي في حديث أبي الدرداء وحديث الدارقطني دليل للجمهور في أن الصوم النافلة يجوز بنية من النهار قبل الزوال قال: وتأوله الآخرون على أن سؤاله هل عندكم طعام لكونه كان نوى الصوم من الليل ثم ضعف عنه وأراد الفطر لذلك وهو تأويل فاسد. وقال ابن المنذر: واختلفوا فيمن أصبح يريد الإفطار ثم بدا له أن يصوم تطوعا فقالت عائشة: له أن يصوم متى بدا له) فذكره عمن تقدم من الصحابة وزاد بن مسعود وأبا أيوب وغيرهما وساق ذلك بأسانيده إليهم قال: وبه قال الشافعي وأحمد، وقال ابن عمر: (لا يصوم تطوعا حتى يعزم من الليل أو بسحر). وقال أصحاب الرأي من أصبح مفطرا ثم بدا له أن يصوم قبل منتصف النهار أجزأه وإن بدا له بعد الزوال لم يجزه، قال ابن حجر: وهذا هو الأصح عند الشافعية. والذي نقله ابن المنذر عن الشافعي من الجواز مطلقا سواء كان قبل الزوال أو بعده هو أحد القولين للشافعي والذي نص عليه في معظم كتبه المتفرقة، والمعروف عن مالك والليث وابن أبي ذئب أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل ا[.

(و) صحته منوطة أيضا (بإمساك عن شهوتي البطن والفرج) أي الأكل والشرب والجماع لقوله تعالى: { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة:187]. ولحديث أبي هريرة أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه من أجلي»، وحديثه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه».وحديث (المحترق الذي قال: هلكت يا رسول الله قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان)، أخرج الأحاديث الثلاثة البخاري، وفيها أن صحة الصوم منوطة بالإمساك عن شهوتي البطن والفرج والأحاديث بذلك متواترة وعليه الإجماع.

(و) صحته منوطة أيضا (بنقاء) أي طهارة (من) دم (الحيض فلا تصوم الحائض) لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال في بيان نقصان دين النساء مخاطبا لهن: «أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم قلن: بلى قال: فذلك نقصان دينها» أي المرأة أخرجه البخاري. (وعليها) أي الحائض (قضاؤه) أي الصوم إذا طهرت بعد رمضان لحديث عائشة قالت: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة).ففيه أن الحائض تقضي الصوم دون الصلاة وعليه الإجماع والله أعلم.

(والسنة) النبوية (تعجيل الإفطار) بعد تحقق الغروب لحديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» أخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم، وأخرج أبو داود وابن خزيمة عن أبي هريرة أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرا ما عجلوا الفطر».وأخرج ابن حبان والحاكم من حديث سهل أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم».وأخرج البخاري ومسلم عن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم».(قبل الصلاة) أي صلاة المغرب لحديث أنس قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء) أخرجه بن أبي شيبة. وروى عن ابن عباس وطائفة (أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة). (أوبعدها) كل ذلك واسع لأن التأخير المكروه هو التأخير إلى ظهور النجوم واشتباكها لحديث الموطأ عن حميد بن عبد الرحمن (أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا ثم يفطران بعد الصلاة).

(وكونه) أي الفطر (على رطبات) فإن لم يجد (فتمرات) فإن لم يجد (فحسوات من ماء) لحديث الترمذي وحسنه (أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من ماء).وأخرج الترمذي أيضا وغيره وصححوه أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم صائما فليفطر على التمر فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإنه طهور».

(و) السنة (تأخير السحور) بفتح السين وضمها (لقرب طلوع الفجر) بأن يستحر قبله بمقدار قراءة خمسين آية لحديث سهل بن سعد قال: (كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم.وحديث زيد بن ثابت قال: (تسحرنا مع النبي  صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة قلت: كم بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية).وحديث عائشة قالت: (أن بلالا كان يؤذن بليل فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال القاسم بن محمد: ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا). أخرج هذه الأحاديث الثلاثة البخاري. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، قال ابن عمر: وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت».

(وهو) أي السحور (سنة) أي أنه مطلوب طلبا غير جازم (وبركة) أي أنه إعانة على الصوم لحديث أنس قال قال النبي  صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة» أخرجه البخاري. ففي الحديث مطلوبية التسحر وأن فيه بركة. قال في الفتح: المراد بالبركة الأجر والثواب، وقيل البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر فتحصل بجهات متعددة وهي اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب والتقوي على العبادة والزيادة في النشاط والتسبب في الذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام.