من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

 

الحلقة الثانية

 

ـــــ موضوع النكتة:حدثنا أَبُو اليمان قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

 ... قال القسطلاني: "وفي الحديث دلالة على جعل الأعمال إيماناً لأنه جعل القيام إيماناً وليلة القدر مفعول به ليقيم لا فيه" أ.هـ.

(قلت) وهذا ليس بصواب بل الصواب أن الإيمان ليس هو نفس القيام وإن الإيمان مصدر مؤول بالحال وكذا الاحتساب والتقدير من يقم ليلة القدر حال كونه مؤمناً بما في قيامها من الثواب ومحتسباً قيامه عند الله غفر له إلخ... وقوله ليلة مفعول فيه لا به لأن القيام لم يقع على الليلة بل وقع فيها ولأنه لا يشترط استغراق القيام لها بل من قام في بعضها ولو بركعتين حصل له قيام ليلة القدر واستحق الغفران الموعود به عليه كما سيأتي ولو كانت الليلة مفعولاً به ليقم كان قيام ليلة القدر لا يحصل إلا باستغراق جميع الليلة وذلك غير مطلوب اتفاقاً" أ.هـ.

نواصل هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ  في حلقات مسلسلة، نشر قطوف
من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم:

"نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح".

 

تنبيه: نلون بالأحمر الإضافات التي ينسبها الفقيه إلى نفسه بقوله: قلت

باب: مِنَ الدين الفِرَار مِنَ الفِتَن

12- حدثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مسْلَمَةَ عن مالك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ أَبي صَعصَعَةَ عَنْ أَبيهِ عَنْ أَبي سَعيد الْخُدْري أَنَّهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "يُوشكُ أنْ يَكونَ خَيْر مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، ومَواقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدينِهِ مِنَ الْفِتَنِ".

الشــرح

-      (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك) أي يقرب.

-      (أن يكون خير مال المسلم غنم) أي خير ما يملكه المسلم الذي يحب سلامة دينه غنمًا.

-      (يتبع بها) أي يرحل بها من مكان إلى مكان فينزل بها:

-      (شعف) أي رؤوس.

-      (الجبال ومواقع القطر) أي مواضع نزول المطر لترتع فيها غنمه ويعبد الله منفرداً.

-      (يفر) من مخالطة الناس

-      (بدينه) طلباً للسلامة.

-      (من الفتن) لا لغرض دنيوي:

-  قال القسطلاني: "فالعزلة عند الفتنة ممدوحة إلا لمن يقدرُ على إزالة الفتنة فتجب عليه المخالطة ليزيلها، واختلف عند عدم الفتنة، فمذهب الشافعي تفضيل المخالطة لتعلمه وتعليمه وأدبه وتحسين خلقه بحلم واحتمال أذى وتكثير سواد المسلمين وعيادة مريضهم وتشييع جنائزهم وحضور الجمعة والجماعات، واختار آخرون العزلة لتحقق السلامة وليعمل بما علم وليأنس بدوام ذكر الله تعالى" أ.هـ.

قلت: والمراد بالفتن البدع المخالفة للشرع التي تعم المجرم والبرئ.

وفي الحديث دليل على أن الدين هو أهم ما على المؤمن، فيجب عليه أن يفر به عن كل ما يؤدي إلى نقصه.

وعليه أن يكتسب من المال ما يعينه على الفرار بدينه كالغنم، وإنما خصها دون الإبل والبقر لأن الإبل لا يسلم مالكها غالباً من الخيلاء والكبر، والبقر لا يسلم مالكه غالباً من مخالطة الناس لأنه لا يستغني عن الماء في كل زمن، بخلاف الغنم فإنها تستغني عن الماء في غير زمن القيظ إذا وجدت المرعى الجيد، ومواضع الماء مظنة لسكنى الناس.

وفي الحديث دليل على أن التبدي مع العزلة أفضل في آخر الزمان من السكنى في القرى والمدن.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم "يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر" دليل على أن طلب الكلأ للماشية مطلوب.

وفي الحديث دليل على أن إقامة المعاش واجبة كإقامة الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالفرار بالدين إلا مع استصحاب ما يقام به العيش.

وفيه دليل على أن المال إنما يطلب في الدنيا لإقامة الدين مع إقامة العيش لا لمجرد العيش والتفكه كما يفعله أهل الدنيا اليوم

نواصل هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ  في حلقات مسلسلة، نشر قطوف
من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم:
،"نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح".
 
 
تنبيه: نلون بالأحمر الإضافات التي ينسبها الفقيه إلى نفسه بقوله: قلت

نص الحديث:

باب قِيَامُ لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ مِنَ الإيمانِ

26- حدثنا أَبُو اليمان قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

الشــرح

(بابٌ) بالتنوين (قيام ليلة القدر من الإيمان) أي هذا باب في بيان أن قيام ليلة القدر من شعب الإيمان.

(أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يقم ليلة القدر) أي من عبَدَ الله بالقيام أي بالصلاة في ليلة القدر (إيماناً) أي حال كونه مصدقاً بما في قيامها من الثواب (واحتسابًا) أي ومحتسباً ذلك عند الله لكون قيامه خالصاً من الرياء والأغراض الفاسدة (غفر له ما تقدم من ذنبه) وما تأخر أي غفرت له ذنوبه كلها التي بينه وبين الله، وأما حقوق العباد فالإجماع قائم على أنها لا تغفر إلا برضاهم.

قال القسطلاني "وفي الحديث دلالة على جعل الأعمال إيماناً لأنه جعل القيام إيماناً وليلة القدر مفعول به ل"يقم" لا فيه" أ.هـ.

(قلت): وهذا ليس بصواب، بل الصواب أن الإيمان ليس هو نفس القيام، وإن الإيمان مصدر مؤول بالحال، وكذا الاحتساب. والتقدير: من يقم ليلة القدر حال كونه مؤمناً بما في قيامها من الثواب ومحتسباً قيامه عند الله غفر له إلخ...

 وقوله "ليلةَ" مفعول فيه، لا به، لأن القيام لم يقع على الليلة بل وقع فيها، ولأنه لا يشترط استغراق القيام لها بل من قام في بعضها ولو بركعتين حصل له قيام ليلة القدر واستحق الغفران الموعود به عليه كما سيأتي.

ولو كانت "ليلة" مفعولاً به ل"يقم" كان قيام ليلة القدر لا يحصل إلا باستغراق جميع الليلة وذلك غير مطلوب اتفاقا.

ثم قال القسطلاني: "وإنما عبر صلى الله عليه وسلم في قيام ليلة القدر بالمضارع وعبر في قيام رمضان وصيامه بالماضي كما سيأتي قريباً، لأن قيام رمضان وصيامه محققَا الوقوع،  فجاء بلفظ يدل على التحقيق. وقيام ليلة القدر غير محقق لأنها مجهولة، قاله الكرماني وقال غيره: وإنما استعمل لفظ الماضي في الجزاء مع أن المغفرة في المستقبل إشارة إلى تحقيق وقوعهـ.

قال ابن أبي جمرة رضي الله تعالى عنه ونفعنا به في بهجة النفوس "الحديث يدل على فضلية ليلة القدر والمراد بقيامها قيام آخرها بعد النوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ به واستقر عمله عليه. وأقل ما يجزي من قيامها ركعتان وأعلاه ثلاث عشرة ركعة. وقيامها أفضل من مجموع عبادة ألف شهر لقوله تعالى: )ليلة القدر خير من ألف شهر(.

وفرائضها أفضل من فرائض ليالي ألف شهر.

 وقي قوله صلى الله عليه وسلم من يقم دليل على أن المطلوب في ليلة القدر هو الصلاة وأن غيرها من أفعال البر لا يحصل به هذا الفضل.  

وسميت ليلة القدر لعظم قدرها عند الله لأنها أنزل فيها القرآن إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم نزل منجما. وقيل سميت ليلة القدر لأن الله عز وجل يقدر فيها ما يكون في السنة أي يبرزه للملائكة.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: إيماناً واحتساباً دليل على أن استصحاب الإيمان في جزئيات الأعمال مطلوب فقيل على الوجوب وقيل على الندب.

 وفيه دليل على أن استصحاب الإيمان يزيد فيه.

وفيه دليل على أن من لم ينو قيام هذه الليلة لم يحصل له الثواب المذكور، وإن قامها لأنه صلى الله عليه وسلم شرط في حصوله أن يكون قيامها إيماناً واحتساباً، وذلك لا يتأتى حتى ينوى.

 وفيه دليل على أن الإيمان هو أعلى الأعمال.

 والصحيح إن ليلة القدر باقية وأنها تدور في ليالي السنة،  اللهم اجعلنا ممن غفرت له بلا محنة إنك كريم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

(قلت): ووجه المناسبة بين الحديث والترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم شرط في ترتب الغفران على قيام ليلة القدر أن يكون قائمها قامها إيماناً واحتساباً أي مؤمناً ومحتسباً، فدل ذلك على أن قيامها من شعب الإيمان أي من طرقه لأنه شرط فيه الإيمان كسائر الشعب.

نواصل هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ  في حلقات مسلسلة، نشر قطوف من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم: "نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح"، ونلون بالأحمر الإضافات التي ينسبها الفقيه لنفسه بقوله: قلتُ.
نص الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ  الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ ". قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا .
الشرح:
(عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟): أي على أي صفة  يأتيك  الوحي، أو على أي صفة يأتيك حامل الوحي.
ـ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): مجيبا له
ـ (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ):  يعني أن الملك الموكل على الوحي يأتيه أحيانا أي في بعض الأوقات حال كون صوته مثل صلصلة ـ أي صوت ـ الجرس أي الجلجل الذي يعلق في أعناق الدواب، وقيل إن الصلصلة صوت حفيف أجنحة الملك لا صوت الملك نفسه، والحكمة في تقديم الصلصلة على إلقاء الوحي أن يقرع سمعه أولا فيقبل إلى الوحي بكليته.
ـ (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ): يعني صلى الله عليه وسلم أن هذا النوع من إلقاء الوحي هو أشد أنواع إلقائه إليه أي هو أشقه، وفائدة التشديد عليه رفع الدرجات له بالصبر عليه.
ـ (فَيُفْصَمُ عَنِّي): أي فيقطع عني الملك الوحي.
ـ (و): الحال أني (قَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ): أي حفظت ما ألقى إلي من الوحي، وإنما شبه صلى الله عليه وسلم صوت ملك الوحي بصوت الجرس مع أن صوت الجرس مذموم لأجل التقريب له إلى أفهام السامعين لأن صوت الجرس هو المألوف عندهم. ووجه الشبه بينهما قوة الصوت، ولأن المقصود بيان أن صوت الملك حسن يقرع السمع ولا يفهم منه شيء توطئة لإلقاء الوحي، وصوت الجرس لا يفهم منه شيء لأنه تصويت فقط. وإنما كان هذا النوع من الوحي هو أشد أنواع الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ينسلخ فيه من البشرية إلى الأوصاف الملكية لأن الملك يأتيه على صورته الملكية. وخطاب البشري مع الملك لا يمكن إلا بانسلاخ االبشري عن بشريته.
ـ (وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا): أي وفي بعض الأوقات يتمثل الملك له صلى الله عليه وسلم حال كونه رجلا أي على صورة رجل.
ـ (فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول): أي فيكلمه بالوحي أي يلقيه إليه فيعي ما يقول، أي يحفظه منه حال المكالمة، وإنما عبر في جانب النوع الأول من الوحي بالماضي، وعبر عن هذا النوع بالمضارع لأن الوعي في الأول حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده، وفي الثاني في حالة المكالمة ولا يتصور قبلها، وليس المراد حصر الوحي على هذين النوعين، بل المراد بيان أن الغالب مجيئه عليهما.
قلتُ: وفي الحديث دليل على جواز سؤال العامي للعالم عن كيفية أخذه العلم، وعن ابتداء أخذه. وفيه دليل على أن الملائكة تتشكل على صورة الآدمي، وفيه دليل على أن الأدب في أخذ العلم بالرواية أن يلقي العالم إلى المتعلم العلم ابتداء والمتعلم منصت حتى يحفظ ما يلقى إليه، يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: فيكلمني فأعي ما يقول. اهــ
ـ (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ): يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
 ـ (يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ): أي ينزل الملك به من عند الله
ـ (فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ): أي اليوم الشاتي البارد
ـ ( فَيَفْصِمُ عَنْهُ):  بكسر الصاد وفتح الياء أي فينقطع عنه الوحي.
 ـ (وَ): الحال
ـ (إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ): تعني أن جبينيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفصدان أي يسيلان عرقا من شدة نزول الوحي عليه لأنه ينسلخ عن البشرية حينئذ.
قال القسطلاني: "وإنما عبرت بالمفرد عن التثنية لأن المفرد يغني عن التثنية في كل اثنين مزدوجين كالأذنين والعينين، فنقول عين زيد حسنة، وأنت تعني عينيه، والجبين ما فوق الصدغ.
والعرق:  رشح الجلد.
قلت: وفي الحديث دليل على أن انسلاخ النبي صلى الله عليه وسلم من البشرية أمر معنوي باطني أي في قلبه صلى الله عليه وسلم إذ لم يذكر في الحديث أن صورته الشريفة تنتقل عن صورة البشر، وفيه دليل أن معاناة الأمور المعنوية القلبية تورث الجسد الظاهر تعبا، يؤخذ ذلك من قول عائشة أن جبينه ليتفصد عرقا، أي يسيل منه العرق الكثير المتتابع كما يسيل الدم من الفصد، وفيه دليل على أن العقل متصل بالدماغ لأن العرق الناشئ من الانسلاخ عن البشرية تصبب من الرأس الذي هو مقر الدماغ. اهــ

ننشر في هذه الصفحة في حلقات مسلسلة إن شاء الله تعالى قطوفا من شرح الفقيه محمد يحيى الولاتي لبعض أحاديث البخاري الموسوم: "نور الحق الصبيح في شرح بعض أحاديث الجامع الصحيح"، ولا نلتزم في هذه القطوف ترتيب الأحاديث الوارد في الكتاب.

باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقول الله جلّ ذكره )إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيين مِنْ بَعْدِهِ(.

حدَّثنا الْحميديُّ عبدُ اللهِ ينُ الزُّبير، قال حدَّثنَا سُفْيانُ، قَالَ حدَّثًنَا يًحي بنُ سعيدٍ الأَنصاري، قال أخْبًرنِي مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ التَّيْمي أنَّهُ سًمٍعَ عَلْقَمَةَ بنَ وقاص اللَّيثي يقولُ: سمعتُ عمرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه على الْمِنْبَرِ قالَ: سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  يقولُ "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنّيات، وإنَّمَا لكُلِّ امْرئ مَا نَوى: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصيبُها، أَوْ إلى امرأَة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِليْه".

الشــرح

- قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:

(باب كيف كان بدء الوحي) أي هذا باب في بيان كيفية بدء الوحي.

(إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بيان معنى قول الله جل ذكره أي عظم ثناؤه: )إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده( الآية – أي إنا أوحينا إليك يا محمد إيحاء كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وإنما خص نوحًا بالذكر قبل النبيين لأنه أول رسول آذاه قومه فكانوا يحصبونه بالحجارة كما وقع مثله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك شبه الوحي إلى نبينا بالوحي إلى نوح أولا، وقيل إنما خُصَّ بالذكر لأنه أول أولى العزم من الرسل، وعطف عليه النبيين من بعده وخص منهم إبراهيم إلى داود تشريفًا لهم".

(عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه) أنه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول):

(إنما الأعمال بالنيات) أي إنما صحة الأعمال البدنية المأمور بها قولاً كانت أو فعلاً، فرضًا كانت أو نفلاً إذا صدرت من المؤمنين المكلفين منوطة شرعًا بالنيات، وإنما قدَّرنا الصحة دون الكمال لأن الحقيقة هنا متعذرة لوجود الأعمال حسًّا ليس معها نية، والقاعدة الشرعية أن الحقيقة إذا تعذرت وجب حمل اللفظ على أقرب المجازات إليها، والصحة هنا أقرب إلى الحقيقة من الكمال. وقدَّر الحنفية الكمال أي إنما الأعمال كاملة بالنيات، وخلافهم إنما هو في الوسائل وأما المقاصد فلا خلاف في اشتراط النية فيها.

والنيات جمع نية، وهي لغة: القصد، وشرعًا: قصد المكلف إلى أن يوجه إلى جهة حكم الله عز وجل فعلاً، والمراد بالأعمال المأمورات التعبدية فخرجت المنهيات، ولا تشترط في صحة تركها النية فيخرج المكلف من عهدة النهي بتركه ولو لم يشعر به، وخرجت أيضا المأمورات المعقولة المعنى كأداء الديون ورد الودائع ونفقة الزوجات والأقارب فلا تشترط في صحة أدائها النية، تبرأ الذمة منها ولو لم يعلم المدين بأداء دينه عنه وكذا ما بعده، ولذا كانت المأمورات التعبدية كالصلاة والصوم لا تقبل النيابة، والمأمورات المعقولة المعنى تقبلها.

وأما ما فيها الشائبتان من المأمورات فاختلف في وجوب النية فيها كالزكاة والطهارة، فمن غَلَّبَ شائبة المعقولية لم يشترط النية فيها، والحكمة في النية التمييز بين العادات والعبادات، وبين العبادات في أنفسها والتقرب بها إلى الله، وحكمتها في غير العبادات التمييز فقط كما إذا اشترى الوصي شيئا بثمن في الذمة لبعض أيتامه الذين في حجره فإنه لا ينصرف للمشترى له إلا بالنية.

والتعبير ب"إنما" يفيد حصر صحة الأعمال التعبدية على وجود النية مقترنة بها وهذا هو منطوق الحديث، ومفهومه نفى الصحة عن الفعل التعبدي الذي لم تصحبه نية وهو كذلك. وأما المأمورات غير التعبدية فلا تشترط النية في صحتها بل تشترط في كمالها لأن الثواب في الآخرة لا يترتب عليها إلا بنية امتثال أمر الله معها فمن ودى دينه أو أنفق على زوجته غير ناوٍ امتثال أمر الله لم يحصل له ثواب وكذا اجتناب المنهيات لا يترتب عليه ثواب إلا إذا قصد به وجه الله.

فتحصَّل من هذا أن النية قسمان: أحدهما قصد المكلف أن يوجه الفعل المأمور به إلى جهة حكم الله بأن ينوي وجوبه إن كان واجبًا أو سنيته إن كان سنة عين كصلاة العيد والجنازة على أحد القولين، أو ندبه إن كان مطلق فعل، أو كونه رغيبة إن كان رغيبة كالفجر، فهذه النية هي التي تشترط في صحة المأمورات التعبدية.

وثانيهما: امتثال أمر الله بالفعل المأمور به وهذه النية هي التي تشترط في ترتب الثواب على فعل المأمورات المعقولة المعنى، كأداء الديون ونحوه وعلى ترك جميع المنهيات، وأما المأمورات التعبدية فلا تشترط نية الامتثال في ترتب الثواب عليها لأنها تنصرف له بلا نية".

وإنما لم تفتقر إزالة النجاسة إلى نية مع أنها تعبد لأنها من قبيل الترك، نعم ترتب الثواب عليها مفتقر إلى نية الامتثال، نعم بقى من التعبدات نوع لا يفتقر للنية كذكر الله وقراءة القرآن والأذان والنية في المشترطة فيه لأنها عمل قلبي، فهذه الأربعة مخصصة من عموم الحديث، وإنما عبر صلى الله عليه وسلم بالأعمال ولم يعبر بالأفعال ليدخل القول لأنه عمل لا فعل ولينبه على أن المراد بالعمل الفعل المستمر المطلوب من المكلف، ولفظة العمل هو الذي يشعر بالاستمرار بخلاف لفظ الفعل فإنه يشعر بالتجدد، ولذا قال تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ولم يقل "وفعلوا" للتنبيه على أن العمل الصالح لا يمدح العبد به إلا إذا دام عليه وقال )واعملوا صالحا(، ولم يقل "افعلوا" لأن العمل الصالح يطلب من العبد الدوام عليه، ولما أراد الله تعالى من العبد مطلق إيقاع الفعل ولو مرة قال )وافعلوا الخير(، لأن المراد بالخير بذل المال وهو لا يطلب من العبد الدوام عليه.

والباء في قوله صلى الله عليه وسلم  "بالنيات" سببية، وعليه فالنية شرط في صحة الأعمال لا ركن منها وهو الصحيح. وشرط النية الجزم بها وإلا بطل المنوي لأن من توضأ متردداً في نقض وضوئه احتياطًا لم يجزئه".

(قلت): ويترتب على هذا الحديث من الفقه أن نظر الشرع إنما هو إلى المقصود أي مقصود المكلف بالفعل لا إلى الموجود في نفس الأمر، وعليه فمن أصبح مفطرًا في يوم ثلاثين من رمضان متعمدًا منتهكًا لحرمة رمضان ثم ثبت في أثناء النهار أن اليوم يوم العيد تلزمه الكفارة ويتعلق به الإثم لأن الأعمال إنما هي بالنيات ونيته فاسدة".

ويترتب عليه من الفقه أيضاً تقديم المقصد العرفي على المعنى اللغوي إذا عارضه في ألفاظ العقود والأيمان والمعاملات.

 

ويترتب عليه أيضاً لزوم الطلاق بالكناية الخفية ك"اسقني الماء" ونحوه إذا قصد بها الطلاق لأن الأقوال من جملة الأعمال.