من نشاطات المركز: مئوية الولاتي

هذه سيرة ولي الله تعالى سيدي محمد بن مولاي علي الولاتي كما كتبها معاصره الفقيه الفاضل العلامة الطالب ببكر بن أحمد المصطفى المحجوبي الولاتي في كتابه : منح الرب الغفور، نقلناها لينتفع بها إن شاء الله من أراد الاطلاع على سير أصحاب الهمم العالية من عباد الله الصالحين، وليدرك شبابنا اليوم ما كان عليه سلفنا الصالح من الاستقامة والخير. نسأل الله العلي القدير أن يصلح حالنا وحال جميع المسلمين.

هو الولي الكامل الشريف الظريف العفيف سيدي محمد بن مولاي علي بن مولاي شريف بن سيدي حم، وسيدي حم، من أهل توات بالجزائر، هو الجد الجامع لشرفاء ولاتة : أهل لخليفة وأهل اب عمار وأهل مولاي علي وأبناء عمهم. وقد كان انتقال الشرفاء من أبناء سيدي حم من إقليم توات بالجزائر إلى ولاتة حيث استقروا بها في القرن الثاني عشر الهجري.

ولد سيدي محمد بن مولاي علي بولاتة سنة 1240 هـ وبها توفي سنة 1304 هـ ،وقد عايش الطالب ببكر سيدي محمد بن مولاي علي مدة تزيد على الثلاثين سنة من العام 1274 هـ وحتى العام 1304 هـ تاريخ وفاة سيدي محمد بن مولاي علي.

هو السيد الأسنى والذخيرة الحسنى الشريف الأشرف الكامل الأبر التقي الزكي الأنور مشهور الولاية معظما عند الخاصة والعامة، بلغ رتبة لم يزاحم عليها، عظم صيته في البلاد واشتهر فضله فيها وسار في الأقاليم ذكره، بلغ في الصلاح والولاية فوق ما يذكر، ذا جد واجتهاد، ولزوم أدعية وأذكار، دائم العبادة يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله لا ينام فيه إلا قاعدا ونحو ذلك، عمل لآخرته كأنه يموت غدا، ملازما لتلاوة القرآن يختمه كل ليلة مرة أو أكثر، والذي أخذت أنا من فيه أنه كان ورده فدية الإخلاص وهي : مائة ألف من سورة قل هو الله أحد، يشرع فيها بعد حل النفل ويختمها قبل القائلة، وهي والله أعلم تعدل ختمتين من كتاب الله تعالى. فقد تناهى في الفضل والدين والصلاح وقوة اليقين، مشهور بالورع والزهد، ما سمعنا بمثله في بلدتنا، لا قبله ولا بعده، فهو شمس ضحاها وقمر سناها، وهو تاج بلدتنا وقطبها، مقطوع النظير ورعا ودينا واجتهادا في العبادة.

ومن زهده أنه لم يبت في داره دينار ولا درهم ولاغيره نافقا في سبيل الله، ينفق على جميع أقاربه، وكانت نفقته كل ليلة عشرين صاعا من الزرع وما فضل عن ذلك يتصدق به أو يشتري به أمة يعتقها لله تعالى، وقد أعتق ثلاثمائة وخمسين مملوكا لله تعالى، يشتري الأمة بنحو من أربعين مثقالا إلى عشرين مثقالا وهو أقلها ويعتقها لله تعالى، وإذا أعتق صغيرا أنفق عليه حتى يقدر على نفسه، فلم نسمع بمثله في هذه الحالة، لا قبله ولا بعده، فقد بلغنا أن ابن عمرأعتق كذا وكذا مملوكا وأن حكيم بن حزام أعتق ألف مملوك، وأن ابن عوف أعتق كذا وكذا مملوكا وأن عثمان بن عفان كذلك، فهؤلاء أعتقوا من مال وسعي وتجارة ومن كد واجتهاد وغير ذلك من الأسباب المكسبة للمال، وهذا السيد، سيدي محمد بن مولاي علي، أعتق هذا العدد من فيض الجليل، لا يبيع ولا يشتري ولا يسافر ولا يبيت عنده دينار ولادرهم فلم يشاركه في هذا العمل أحد رضي الله عنه ونفعنا به آمين.

وكان يصوم الدهر كله لايفطر في السنة إلا أربعة أيام :يوم الفطر ويوم العيد ويومين بعد يوم العيد لاغير ذلك، حتى توفي وهو صائم في اليوم الذي قبل يوم وفاته، وتوفي ليلة الثلاثاء بعد أن صلى العشاء، وكان لا ينام إلا على الطهارة صيفا وشتاء، لا أظن أنه يتمم قط، بل منذ أن بلغ إلى أن توفي رحمه الله تعالى.

وكان موصوفا بالصلاح وسلامة الباطن والتقوى والزهدوالاشتغال بما يعنيه عاملا بما علم ملازما إسباغ الوضوء على المكاره، لا تمر عليه ساعة إلا وهو على وضوء ملازما للمسجد يصلي فيه الصلوات الخمس في الجماعة، لم تفته فيه تكبيرة الإحرام منذ ثلاثين سنة أو أكثر، وكان كثير الأوراد يطوع له الزمن في أوراده من تسبيح وذكر وصلاة نافلة وغير ذلك، يختم في الزمن اليسير ما لا يختمه أحدنا في أيام كثيرة، وإذا رأيته يسبح في مسبحة لا تظن إلا أنه ذكر الله فيها مرات، وهو سبح فيها مائة تسبيحة فهذه كرامة وهي طي الزمن له كطي الأرض للأولياء.

وكان حسن الخلق لا يطوي بشره عن أحد، لا يمل جليسه منه ولو جلس معه دهره كله، حلو حديثه مع الناس في الوعظ وقصص الصالحين، ولا يتكلم بكلمة أو كلمتين من أخبار الدنيا إلا خرج منها إلى أخبار الآخرة بسرعة، وكان رحمه الله صاحب كشف يتكلم على الخواطر فإذا خطر في قلب جليسه شيئ حدثه بما يناسبه في ذلك الوقت، وكان يحدث المسافرين بما خطر في قلوبهم قبل قدومهم من سفرهم.

ومن كراماته تسخير الخلق فترى الناس يهدون له الأموال العظام من الأمكنة البعيدة مسافة أربعين يوما من أرض السودان وقرية تنبكت وأروان وشنجيط وغيرها من الأمكنة البعيدة ينفق جميع ذلك في سبيل الله أو يجعله في ثمن مملوك يعتقه لله تعالى فلو ملك ألف مثقال لما بات عنده منها مثقال واحد.

ومن أكبر كراماته التي هي أصل عبادته استقامته مع الشريعة منذ بلغ سن التكليف حتى توفي، وكان رحمه الله تعالى مسددا موفقا في القول والعمل لم نر قط ولم نسمع استقامة كاستقامته. ولقد اجتمعت معه ولله الحمد في مسجدنا ثمانية وعشرين سنة فما رأيته يفعل فعلا يستحى منه، وما رأيته صلى بتيمم في تلك المدة لصلاة واحدة، ولم تفته صلاة الجماعة في تلك المدة إلا لعذر كبير. وقد زاحمته ولله الحمد في الصلاة عن يمينه وعن يساره وعن خلفه وأمامه المنكب بالمنكب والقدم بالقدم وقد جربت بركته مرارا وجربها غيري فوجدها.

وكان من أحسن الناس خلقا، يسلم على من لقيه ببشر وطلاقة وجه وتعظيم، حتى إنه يقول للأمة إذا مرت به على رأسها الحطب أعانك الله ويدعو لها بما تحب، وفي الحديث : (إن حسن الخلق هو أعظم ما يوضع في الميزان).

وكان رحمه الله تعالى سخيا من الأسخياء عظيم النفع للخلق كلهم، وقف مائة وعشرين مدا بمد ولاتة للمسلمين المحتاجين وجعلها بيد ثلاثة رجال صالحين في جوانب قريتنا ولاتة. وكان عنده كل مسألة فيها منافع الخلق من : فأس وسكين وموسى وإبرة ومقص ومرآة ومنقاش. وكان مشهورا بسقي الماء، في داره نحو ثلاثين ظرفا كبيرا للماء لسقي المسافرين والضعفاء والمرضى، وكذلك ماء المسجدين مسجدنا الكبير ومسجد إديلب يصب فيهما الماء كل يوم. وكان قائما بعمارة المسجد من صلاة الخمس فيه وإيقاد قناديله فهو الذي يوقده في سدس الليل الأخير حتى يصلى عليه الصبح.

وكان رحمه الله تعالى يحب الكتب كثير العناية في تحصيلها حتى حصل خزانة نفيسة بالخط الحسن النفيس تزيد على أربعين مجلدا . وكان كثير الحياء لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان رحمه الله تعالى واسع الصدر من المتوكلين على الله حق التوكل لا يتداوى ولا يسترقي، وسمعت منه رحمه الله تعالى أنه إذا لدغته عقرب أو غيرها لا يسترقي من لدغتها ولا يعلم بها جليسه.

وكان من الصلحاء المتقين تام المروءة من أهل الجود والسخاء والصدقة وفعل الخير، وكان يلبس ما وجد من اللباس تارة يكون من أحسن الثياب وتارة يكون من أخشن القطن زاهدا في اللباس، وكان ملازما للجوع دائما ربما مكث أياما متواليات عن الأكل لا يفطر إلا على فضلة ماء ونحوه. وكان ملازما لبيته لا يخرج منه إلا للمسجد أو إلى صلاة الجنائز وداره في جوار المسجد قريب بابه من باب المسجد جدا، وكان كثير الزيارة لقبور الصالحين آخر الليل.

وكان رحمه الله تعالى بنى أمره على صدق النية في جميع أموره لا يفعل أمرا من الأمور إلا عن نية صادقة وكانت عبادته كلها خفية. وكان يدخل السرور على المذنبين ويدعو لهم بما يناسب أحوالهم، وكان رحمه الله تعالى حليما موصوفا بالحلم والزهد والتقى والورع ما رأينا ولا سمعنا بمثله قط لا في زماننا ولا في القرون الخوالي، وكان رحمه الله تعالى معروفا بالكشف ولكن لم يظهره للناس وربما ظهر بعضه منه بغير شعور منه، وحدثني ثقة أنه أتاه يوما بقدح صغير حسن هدية فأخذه وأعجبه ووضعه في يده اليمنى ثم رده إليه وقال له هذا قدح جيد ولكنه غير طيب، فلما سأل عن أصل القدح وجده كذلك مسروقا فرده إلى صاحبه المسروق منه. ثم وقع له مثل ذلك معه أيضا، تكلم مع امرأته في داره بكلام ثم ذهب إليه في داره وسلم عليه فقال له يا فلان اترك المرأة تفعل ما قالت لك، فقال سبحان الله ! هذا هو الكشف الحقيقي. رضي الله عنه ونفعنا به.

وكان حسن الصوت بالقرآن، لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داوود عليه السلام، وكان رحمه الله تعالى كثير الخوف والمراقبة لله تعالى. وكان إذا غضب على أحد من عبيده يرسل له ويقول له اجلس هنا فيأخذ شيئا من التراب فيجعله على رأسه عقوبة له بذلك ويقول له اذهب لا بارك الله فيك ولم يضرب بيده مملوكا ولا غيره قط.

وكان يحث على الصلاة في أول الوقت ويقول الصلاة عماد الدين فمن حفظها حفظه الله ومن ضيعها ضيعه الله، وكان يغضب إذا رأى أهل المسجد يؤخرون الصلاة أو يتكلمون في المسجد بكلام الدنيا ويقول الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الرقيق، وكان يتكلم بعد الصلاة في المسجد على ما في الضمائر وخواطر القلب له مكاشفات وكرامات في ذلك، وكان سالما من وساوس القلب وشواغله فما رأيته سهى في الصلاة ولا وسوس فيها ولا يرفع يديه إلا عند تكبيرة الإحرام بعد أن يحرم إمامه وهذا أمر لا يسلم منه أحد إلا من وفقه الله تعالى فترى كثيرا من المصلين يوسوس عند تكبيرة الإحرام ويرجع يديه ويقلبهما وذلك كله ما هو إلا من شواغل القلب.

وكان رحمه الله تعالى يحب الطيب ويستعمله كثيرا لا يدخل المسجد إلا عرفت أنه دخل فيه من طيبه ورائحته، ويحب الحلوى والعسل والسكر ويتحف به إخوانه المسلمين، وكان يحب تمر الهند وهو أقنات وربما كان قوته في الليل ويقسمه على إخوانه المؤمنين، لا أظن أنه في ولاتة أحد إلا وقد وصله معروف من هذا الولي لا من النساء ولا من الرجال والله تعالى أعلم.

وكان رحمه الله تعالى دائما على الطهارة، لا ينقض وضوءه إلا توضأ ودخل المسجد وركع فيه ركعتين ويحكي حديثا ربانيا : (طوبى لمن توضأ في بيته ثم زارني في بيتي فحق المزور أن يكرم زائره)، ولم يزل دائما على الخير من صغره حتى توفي رحمه الله تعالى موافقا في الأقوال والأفعال مدة عمره ، وأهل بلده يحبونه كلهم واتفقوا على فضله واستقامته وبذلك جرت سنة الله تعالى مع عباده المتقين، قال الله تعالى : (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) وفي المثل اتق الله يحبك الناس وإن كرهوا، وفي البخاري: (إذا أحب الله عبدا نادى أهل السماء إن الله أحب فلانا فأحبوه فيوضع له القبول في الأرض) وحب الناس علامة لمحبة الله تعالى، وكان رحمه الله تعالى أبا لليتامى والضعفاء والمساكين والأرامل والقرباء، شديد الرحمة والرأفة بهم، وكان قائما بأمور المسجد ومعمرا له في جميع أجزائه الليل والنهار حتى قيل يوم وفاته : اليوم تيتم المسجد.

وكان إذا جلس أهل المسجد يمدحون المصطفى صلى الله عليه وسلم في ربيع النبوي، اليوم الذي قبل ولادته عليه السلام ويوم الولادة ويوم تسميته وليلتيهما، على عادة أهل ولاتة، لا يبقى شيئ في داره إلا أرسل لهم منه شيئا ولا يزال كذلك حتى يختمونه، ومتى سمعهم يمدحون يخرج إليهم بلذائذ الأطعمة من تمر وعسل وسكر وغير ذلك مما في داره . وقد أعانه الله تعالى على أفعال الخير وما ينفع في الدار الآخرة، وكان منزله يشبه منازل الغرباء لزهده في التزخرف في المنزل لا يأنف عن حصير يضطجع عليه، وربما اضطجع في التراب دون حصير وبلا وسادة وقد توفي رحمه الله تعالى وهو مضطجع في التراب بلا وسادة. ولا يدخل أحد منزله إلا ظن أنه منزل أمة أو مسكين ضعيف لزهده في الدنيا وأنها ليست له بوطن.

وكان رحمه الله تعالى رؤوفا رحيما بالمؤمنين لا يذم أحدا ولا يعيبه، وكان يستحسن الحسن عند الناس متأدبا بالآداب المحمدية، وكان المساكين منه على بال يتفقد أحوالهم ويباسطهم ويوسع عليهم بحكايات الصالحين الصابرين الزاهدين. وكان يحسن إلى جيرانه غاية الإحسان، وكان رحمه رحمه الله تعالى شجاعا من أشجع الناس، كان يخرج إلى المقابر آخر الليل للاعتبار والزيارة وربما شاهد أهوالا عظاما وكذلك في المسجد. وكانت استقامته من أكمل الاستقامة يؤدي الفرائض المأمورات عند ما يدخل وقت الأمر بها ويأتي بها على الحالة التي أمر الله أن تؤدى عليها متأدبا بين يديه تعالى بكل خلق حسن لديه ولا يحوم حول المنهي عنه في حركة ولا سكون ولا يقصر عما يرضي ربه ولا ينطق إلا بذكر الله تعالى أو بما يرجو ثوابه ولا يدل إلا على ذكر الله تعالى أو على ما فيه الثواب، وكان متخلقا بقوله تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقوله عز وجل (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). والاستقامة هي أعظم وأفضل كرامات الأولياء وقد رزقها الله تعالى لهذا الولي الشريف رحمه الله تعالى.

وكان رحمه الله تعالى كثير الحياء قليل الأذى كثير الخير عديم الفساد صدوق اللسان عديم الكلام كثير العمل معدوم الزلل قليل الفضول كثير البر والرحمة وصولا وقورا صبورا إلى غير ذلك من الأخلاق المرضية.

وكان مولده سنة أربعين ومائتين وألف، وتوفي لعشر بقين من شوال ليلة الثلاثاء سنة أربع وثلاثمائة وألف فعمره خمس وستون سنة رحمه الله تعالى ونفعنا به. وكان رحمه الله تعالى نحيل الجسم بين الطول والقصر، وكان ضحكه التبسم لم ير ضاحكا قط، وكان خلقه القرآن يرضى برضاه ويغضب لسخطه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر رحمه الله تعالى ونفعنا به.